احتفال كل يوم | نون

 

كتبه: رفيق رائف

 

عادةً ما تزداد صراعاتي وأزماتي الوجودية في مثل تلك الأوقات، سواء كانت نهاية العام أو اقتراب عيد ميلادي. تصاحبني عدة مشاعر مختلطة؛ من الفراغ، والإحباط، والقلق، والضياع وأيضًا التَّيَهَان.

إذ أكون ممتلئًا بأفكار، مثل: “أنا لم أُنجز أي شيء مفيد هذا العام”، “فاتت سنة ولم أستمتع بأشياء كثيرة”. وأكثر تلك الأفكار إيلامًا “أنا لم أعش حياتي هذا العام، أحدهم سرق أيامي”. على مدار رحلتي القصيرة في الحياة، توصَّلت لبضع وسائل أستند عليها في تلك الأوقات، أشاركها معك، قد تساعدك ولو قليلًا.

الجزء الأول من التعامل مع صراعي وجدته في التساؤل عن “ماذا يشعرني حقًا بالحياة؟”؛ ففي كثير من الأحيان ألوم الحياة، وألوم نفسي على أنني لا أحصل منها على ما أريد، دون أن أحدد ماذا أريد منها في الأصل. ولذلك، اعتدت أن أقوم بذلك التمرين في كل عيد ميلاد لي، في آخر بضع سنوات؛ حتى يساعدني في التعرف على ما يشعرني بالحياة حقًا.

أكتب في دفتري الخاص عن السنة التي مضت، أحاول أن أقوم بحصر تلك الأوقات التي شعرت فيها أنني أتنفس الحياة، أنني راضٍ عن حياتي. قد لا تحتوي القائمة على أشياء باهرة، بل في الأغلب أوقاتًا بسيطة مثل: سفر ممتع تلامست فيه مع الطبيعة، أو وقت دافئ مع أصدقاء شعرت فيه أنني “مُصاحب حقًا”، أو وقت شعرت فيه أنني محبوب حقًا. أو ربما على النقيض كان هناك وقت استمتعت فيه بعُزلتي، واستأنست بوحدتي، وصرت في سلام مع وجودي، دون أن أفعل شيئًا أو أحادث أحدًا، دون أن أهرب مني، وقت عقدت فيه هدنة مع معاركي الداخلية وتصالحت مع رحلتي في الحياة.

أكتب أيضًا عن علاقاتي، أمتنُّ لهؤلاء الذين اقتربوا مني وأشعر بالدفء معهم، وأودع هؤلاء الذين ابتعدوا مُتقبِّلًا شكل الحياة والعلاقات، أو مُقرِّرًا أنني سوف أبادر لاستعادة بعض منهم. أكتب عن الأوقات التي فخرت بنفسي فيها، أكتب عن إنجازاتي الصغيرة، وخطواتي المبعثرة في الحياة. أكتب أيضًا عن الأوقات المؤلمة، والأوقات التي كانت صعبة ومليئة بالتحديات.

هدف هذا التمرين ليس الحصر ولا عد الأوقات المُفرحة على حساب الأوقات المؤلمة، أو العلاقات المتبقية على حساب العلاقات المنقطعة؛ إنما الهدف الأعمق أن أتعرَّف على حياتي بشكل أعمق وأكثر شمولية، وأن أراها من منظور الرحلة بدون أن أتوقف عند حدث معين، وأظل أدور حوله وأنحبس فيه. أن أتعرَّف بشكل عمليّ على ما يسحب مني الحياة، وما يشعلها بداخلي.  مع تكرار هذا التمرين لعدة سنوات، صرت واعيًا أكثر لإحساس الحياة الذى أختبره في تلك الأوقات، فأتوقف عنده وأمتن له عالمًا أنني سأقوم بالكتابة عنه في آخر السنة. أما عن الامتنان، فهذه مهارة أو قُل عضلة أخرى ساعدتني في صراعاتي الوجودية.

إذ لا أحتاج حتى أنتظر إلى آخر السنة، كي أحتفل بأننى عشت، إذا مارسته كل يوم فإني أدرب عقلي على أن يرى الحياة، وأن يستمتع بها حتى في أصغر الأشياء.

هل توقفت لتتذوق قهوتك الجميلة وتمتنَّ لها ولطعمها، هل شعرت بنسمة باردة في الصيف؟ أو شمس دافئة في الشتاء؟ هل شعرت بأن أحدهم يفهم أعماقك حقًا؟ هل ضحكت من قلبك اليوم؟ هل شعرت بالسلام، ولو لوهلة في حضن أحدهم؟ هل رأت عيناك جمال السماء وقت الغروب؟ هل تحركت دواخلك مع موج البحر الذى شاهدته؟ هل لمست وردة وفكرت كم هي رقيقة وقوية في نفس الوقت؟ هل أحسست بشيء من الإنجاز؛ حتى إن كان وجبة دافئة أعددتها لنفسك أو جزءًا صغيرًا قرأته في كتاب؟ هل ارتديت ثيابًا تحبها اليوم؟ هل أحببت شكل وجهك، ذقنك، شعرك اليوم؟ هل امتننت لعلاقاتك؟

ربما كان هذا كل ما يشكل الحياة، القليل من هذا والقليل من تلك. أن تستمتع بالجمال من حولك، أن تشعر بالحب وأن تتبادله مع الآخرين ومع نفسك، أن تحتضن أحدهم في معاناته، وأن تترك آخر يحتضن آلامك، أن تستمتع بخطوات صغيرة تخطوها في طريق تشكيل وعيك وتغيير نفسك، أن تتلامس مع كلمات كتاب تحبه، أن تترك جسمك يرقص على نغمات تحبها، أن تفلت من الأسر دموعًا لطالما حبستها بداخلك.

الحياة لا توفر إنجازات باهرة أو أحداثًا كبيرة في كل يوم. ربما كان يجب عليك ألَّا تنتظر تلك الأشياء الكبيرة والعظيمة أن تحدث، حتى تشعر بتقديرك للحياة. فهكذا ستمرُّ الحياة وستسرق منك دون أن تحياها حقًا.

هل جربت أن تفتح عينَيْ وعيك كي تستطعم الحياة في تفاصيلها الصغيرة؟ .. أدعوك أن تمارس تمرين الامتنان ذلك، ربما في نهاية كل أسبوع أو في نهاية كل يوم، حتى تعتاد عيناك أن تمتن لما هو بسيط بدون أن تنتظر الباهر والمدهش. بالنسبة لي، صالحني ذلك التمرين على الحياة، وعلى نفسي وهويتي، وعلى إنجازاتي الصغيرة، وعلى خطواتي مهما كانت تائهة، وعلى رحلتي مهما كانت محيرة ومربكة.

أتمنى لك مصالحة وسلامًا مع الحياة، وأن تحتفل بها وأن ترقص معها، كل يوم.

 

المراجعة اللغوية: عبد المنعم أديب.


رابط المصدر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى