الفضاء العمومي المعارض اليوم

الكاتبأوسكار نيغت
ترجمة عن الألمانيةألكسندر نومان

سأُحدّثكم عن الفضاء العمومي المعارض، الذي تظهر أحد أشكاله أمام أعيننا، الآن وهنا، وفي قلب الحدث.

حتى نكون واضحين منذ البداية، نحن منشغلون منذ ستة أشهر بالأزمة الخطيرة والدائمة للشكل المعاصر للرأسمالية. ما يُدهشني أكثر، هو ضعف التفاعلات مع هذا الوضع، ونُدرة المثقفين القادرين على افتكاك الكلمة من أجل إضفاء الشرعية على سياسة اليسار. هذه الوضعية متناقضة جدا، لا أود الانجذاب نحو هذه الحالة من الحسرة، ولا أريد أن أتسمّر في وضعية الحداد، لكنني أريد أن أفهم كيف آلت الأمور إلى هذا السوء، حتى أُبلور وعيا واسعا بموضوع بنية الرأسمالية العالمية، التي ستتمظهر من الآن فصاعدا في شكلها التاريخي الأصيل. فللمرة الأولى، تشتغل الرأسمالية بنفس الصيغة التي عرضها ماركس في كتاب “رأس المال”.

يجب أن نُنوّه اليوم بأن كل الحواجز-التي تآكلت منذ عشرين سنة –  أمام التطور الحر للرأسمالية، المُتجسّدة في الدولة الاجتماعية، هى الآن بصدد الانشطار.  الموضة السائدة في الوقت الحالي، هي استبعاد الدولة. يعني هذا، أننا نحذف، أو نتمنى حذف كل أشكال الرقابة حتى تتمكن القوى الخلاّقة للرأسمالية من متابعة دورانها الحر.  لقد وصلت هذه الحركة الى نقطة بدى فيها التحطيم الذاتي للنظام الرأسمالي من قبل هذه القوى نفسها، واضحا للعيان؛ ما يعني ان الدول التي تزعم انها تُعاني من الفوائض، مدعوّة لإنقاذ هذا النظام عبر ضخ مليارات الدولارات. لا أعلم بعد من سوف يتحمّل تكاليف تحويل ميزانيات عمومية نحو عالم المال، هذا على الرغم من أن رأس المال المالي، ليس بالرهان الأوحد، نظرا للتحولات الاجتماعية العميقة التي وقعت أمام أعيننا. على سبيل المثال، مشكلة البطالة الضخمة والدائمة، ليست مشكلة ظرفية مرتبطة بالركود الاقتصادي، فالجميع يعلم بأن إنتاج السيارات يفرض التخفيض شيأ فشيأ من اليد العاملة البشرية. عقلنة سيرورات سلع السوق: سيارات، آلات غسيل، حواسيب، تتخلى أكثر فأكثر عن الجهد البشري. إذا هو مشكل يخُص المنوال الاقتصادي الذي يُعتقد بأنه الوحيد الممكن. ظهرت في بدايات سنة 1980 فكرة “مجتمع الثُلثين” والتي تعتبر بأن ثُلثى المجتمع يتكوّن من أشخاص تلقوا تنشئة سليمة، لديهم وظيفة وآفاق جديّة في الحياة، في حين أن الثلث المُتبقّي محكوم عليه بالعيش على هامش المجتمع. أعتبر من الآن فصاعدا، أن هذه الفكرة قد وقع تجاوزها. يتأكد هذا التقسيم الثلاثي في مجتمعاتنا المتطورة جدا-  لا أتحدث هنا على بلدان الأطراف التي تُكوّن الكتلة الأكبر من سكان العالم-   ثُلث السكان مُندمج بصورة جيّدة، ينعمون بالراحة ولا يُبلورون أىّ وعى بخصوص الأزمة الراهنة؛ ينتمون إلى الإدارة البنكية التي قادت كل المؤسسات نحو الإفلاس، غير أن جنى الفوائد المُعتبرة من البنوك نفسها، لا يجعل أيّا منهم يشعر بالخجل. هم أُناس يدعمون ثروة المجتمع، التي تظهر كأنها مُؤمّنة سياسيا، ويُصوّتون بالأغلبية لصالح “أنجيلا مركل”، “نيكولا ساركوزي” أو “سيلفيو برلسكوني”.

يُمثّل النصف الثاني من المجتمع طاقة قابلة للإنفجار، إذا ما تعرّضوا إلى ظروف حياتية هشّة، من وظيفة إلى أخرى، من عقد عمل إلى آخر، تُصبح آفاق المستقبل صعبة بحكم تغيّر أُفق الحياة من يوم إلى آخر. في النهاية، يُمثّل الثُلث الثالث، الجيش الضخم والزائد عن الحاجة، الذي لا يحتاجه هذا النظام الإنتاجي. أعتقد أنه من الخطير استثناء ثُلث المجتمع من العلاقات الاجتماعية والعمل المُهيمنة داخل المجتمع، والتي تعود إلى الإشكالية البُنيوية لهذا المجتمع، ولا تُمثّل الأزمة المالية دليلا على هذا الإشكال أو سببا له.

ذات مرة، همس لي الصحفي الأمريكي “جيريمي رفكين”: “إن استغلال الناس أمر خطير ومأساوي، لكن الأكثر خطورة، أننا لم نعد بحاجة إليهم، حتى لمجرد استغلالهم وتحويلهم إلى زائدين عن الحاجة.” أُثير هنا فقط ما يحصُل في عُمق مجتمعاتنا، وليس ما يحدث من اضطرابات كتلك التي تسود “وال ستريت” أو البنوك الأمريكية. هنا، تسبّب الضيق وارتفاع مؤشر الخوف في عدم تمكن الناس من تخيُّل كيف سيكون مستقبلهم. يُعادل هذا الخوف السؤال الأساسي المعني بمعرفة من هم الناس الذين هم على قيد الحياة فعلا، وما هو العمل الحقيقي، في مقابل عمل الرأسمالية الميّت؟ حتى نصل إلى حل، لا بد أن نفترض أن جزء محدودا من النشاط يأخذ بعين الاعتبار انتاج السوق، ولا أعتقد أنه من المفيد أن نُؤيّد اليوم وجود سلسلة من المصانع التي تُنتج الفقر من خلال نظام فائض الإنتاج، رغم أنني أستشعر بصفة ذاتية، التهديد الجدّي للبطالة، وفكرة الإعانات العمومية في هذا المجال. يجب أن نُقرّ بأن هذا الأمر لا يحل الإشكالية البنيوية. حسب رأيي، لا بد من بلورة مفهوم جديد للعمل يحُوم حول شكل من الفائدة المشتركة، والذي تُموّله المجموعة.

يجب اعتبار أن الاقتصاد يُمثّل مشكلة تتكامل مع ثقافتنا، كإحدى الرؤى المتناقضة مع النكوص الحالي. عندما تبتعد قواعد التصرف الاقتصادي على نقطة الفائدة المشتركة، وعندما يقع فرض النظرة الضيّقة لإدارة المؤسسات على المجتمع، حينها نكون أمام مفهوم للإقتصاد يُعبّر في عمقه على الاسراف، وليس اقتصادا عقلانيّا.  في هذا السياق، توجد أمثلة واضحة مثل اقتطاعات الميزانيات في المدارس العمومية، الجامعات والمستشفيات وأين يجب أن نقتصد في كل شيء، في حين أن ميزانيات بالمليارات تظهر فجأة لإنعاش البنوك. هذا التناقض بين الحاجة العمومية والثراء الاقتصادي الفاحش، لم يخترق الى حد الآن وعى كثير من الناس، لكنه، ومع هذا، خلق ترسبات ذهنية تسببت في أشكال من الغضب والمقاومة والحاجة إلى التعبير. توجد إذا مؤشرات على الغضب داخل المجتمع والتي يُمكن أن يقع توجيهها من قبل اليمين، إذا لم تستطع الحركات الديمقراطية أن تفهم هذا التناقض في إحساس الناس واستثماره سياسيا.

يجب أن نفكر في الاقتصاد بطريقة أخرى، في اللحظة التي يُعاد إدماجه في بُعده الثقافي. ما هو معنى النشاط الاقتصادي، ماذا يعني العمل اليوم؟ ما هو الهدف من حياة طيّبة؟  لا بد من وضع حد لاقتصاد الإسراف الذي نعلمه، الذي أسميه الاقتصاد الأول، ونمر إلى شكل آخر من الاقتصاد الذي سوف يكون اقتصادا ثانيا للادخار، من خلال الاستثمار في قطاعات التربية، التكوين، ومجالات أخرى تبدو أساسية. شخصيا، لدى بعض الشكوك حول ما إذا كنا سوف نتمكن بعد الازمة المالية من إبراز تفكير اقتصادي جديد على طريقة “أرسطو” في حديثه على إقتصاد التدبير العائلي. سوف أقوم بإظهار الرافعات التي تُمكّن من دفع بعض الخيارات داخل المجتمع.

يتمثل ذلك في ابداع فضاء عمومي مناسب والذي يمثل حدثا أساسيا، لأن لا أحد يستطيع الخروج من الدائرة المغلقة للوضعية الراهنة بالاعتماد على قواه الذاتية. تأسيس فضاء عمومي خالص هو أحد العناصر المحددة للمقاومة ولتنظيم الخيارات. أُسند للفضاء العمومي الدور المحوري في تكوين وعى بزمننا الحاضر. في الوقت الراهن، لم تتوصل النقابات في أوروبا للمشاكل الحقيقية التي نواجهها داخل هذا المجتمع الرأسمالي. يوجد دائما نوعان من الفضاءات العمومية. ما يعتمل داخل الفضاء العمومي البرجوازي، ليست له أيّة علاقة بأشكال المقاومة المباشرة ضد الأزمة الاجتماعية البنيوية، بإعتبار أن هذا الفضاء العمومي “الرسمي” يُكرّر خطاب ورمزيات النظام الاقتصادي. سيظهر إن كان هذا الفضاء العمومي مع أو ضد دعم البنوك أو قطاع صناعة السيارات على سبيل المثال. هناك معلومة مختصرة عن “Real Estate Bank” تقول بأن تكاليف إفلاسه يمكن أن تتجاوز كثيرا تلك المتعلقة ببنك “Lehman Brothers”. تخيلوا حجم مبالغ الرهن. منذ سنة، وقع إعلامنا بخسارة ملايين من الأورو أو الدولار، في حين أننا اليوم تجاوزنا ذلك نحو المليارات. ماذا يعني هذا بالنسبة لقيم ومقاييس هذا المجتمع؟

هو أمر مُحتوم، ويوجد في اللحظة الراهنة خطر يتمثل في أن الحكومات الأوروبية المحافظة تحاول وضع اليد على المؤسسات الاعلامية، التلفزة، الصحافة. هذا ما حصل فعلا في إيطاليا مع “برلسكوني”، واليوم تتكرر نفس الظاهرة في فرنسا، وغدا في المانيا. لأن النواحي البُنيوية للأزمة غير بارزة للعيان، سوف تُحاول وسائل الإعلام مواصلة التستُّر على هذه الحقيقة وتجاوزها في صمت. هذا ما يُفسّر حاجتنا إلى حقيقة مُعارضة، لمُتّسع آخر بديلا على المبادرات المضبوطة التي تحكُم اليوم.

من البديهي أنّ النقابات تُمثّل دائما منظمات ضخمة وإطارا مهما، يستطيع هذا الفضاء العمومي المعارض أن ينمو داخلها، من خلال تمثيل فئات اجتماعية مثل الأساتذة، الطلبة وآخرين. لأن الأزمة الراهنة أثّرت على نفسية عدد كبير من الناس، إلى حدود قلب الطبقة الوسطى. هذه الشريحة الوسطى بصدد الانهيار في الولايات المتحدة، وينهار معها الحلم الأمريكي. تتعرض الطبقة الوسطى إلى التُشظّي في كل مكان. بالنسبة إلى النقابات، وأعني بالضبط الوضع في ألمانيا والنمسا، شيأ فشيأ يتكون لديهم وعى بالأزمة البنيوية التي نُواجهها والتي لم تكن بمحض الصدفة. أقول بصيغة أخرى، حتى لو وقع تنظيم الاقتصاد والذي لا يبدو أنه واضح إلى حد الآن، لن نعود أبدا إلى وضعية “ما كنا عليه سابقا quo ante”. نحن نُواجه أزمة ثقافية تتغذّى من التطورات الاقتصادية التي لا تفعل شيأ سوى مزيد إثقال المشكل.

من أجل ذلك، أريد أن أُؤكد على معنى الأزمة الثقافية كما أفهمها. تشهد أنظمة القيم والمعايير التقليدية أزمة تسببت في زعزعتها، حيث لم يعد من اليسير تمريرها إلى الأجيال الشابة، في الوقت الذي لم نخلق فيه الجديد من القيم والمعايير، ولم يقع تعويض القديم منها. نحن في مرحلة بحث ثقافي نشيط، بحث على المعنى. اعتمد “اميل دوركهايم” على عبارة “الأنوميا” ليصف هذه الوضعية الملتبسة. وقع تعليق القواعد الاجتماعية بفعل هذه “الأنوميا”، يعني ذلك، أنها لازالت موجودة، لكنها دون تأثير يُذكر. سوف أقدّم ثلاثة أمثلة بخصوص ذلك.

أُعيد الأخذ بكلمات “دوركهايم” الذي يتحدث عن “الفراغ الأخلاقي”. لا يقصد بهذا أنه لا توجد منظومة أخلاقية، لكن الأخلاق القديمة لم تعد صالحة. لنأخذ مثالا على حالة تطرح خطرا كبيرا. يحاول النظام الرأسمالي القائم، أن يُحطّم كل الروابط الاجتماعية. فعندما يقوم عامل في “سيمنس” أو “بيجو” أو أية مؤسسة أخرى، بإظهار تعلُّق بمجموعة العمل داخل المصنع، سيكون من الصعب ضبط الأُجراء إلا إذا كان هذا العامل مهتما بعمله فقط ولا يفكر في مقاومة عزل العمال، والاستعانة بمصادر خارجية. يُمثل غياب الرابط، هدفا مُبرمجا للمجتمع الذي يقع تعريفه من خلال النظام الاقتصادي.

في النهاية، حتى الليبراليون مثل “داهيندورف” يخشون من وجود عالم دون قيود، حيث تكون الوسيلة الوحيدة فيه هي العنف، وحيث تختفي الروابط المباشرة، وتشتبك مع مؤشرات العنف داخل المجتمع. رغم أن “داهيندورف” كان من أوائل الذين “احتفلوا” بإختفاء القيود في ظل العولمة بإعتبار ذلك حدثا ليبراليا.

يشعر عديد الليبراليين اليوم بالخوف من تأثيرات النظام الذي لطالما مدحوه. إن تدمير الروابط أخطر بكثير من عرض البدائل إلى درجة لا نريد أن نتمنّاها. أفكر مثلا في “البابا” أو الطائفة الكهنوتية، الانجيلية، الإسلامية وآخرون الذين يُعارضون التنوير. لنأخذ مثالين واضحين حول اختفاء الرابط الاجتماعي دون أن نُعوّضه بشيء آخر. في موضوع العمل، أُفكر في اليوتوبيين الكبار مثل “كامبانيلا”، “فرانسيس بيكون” “توماس موور” الذين يحلمون بأنه عندما يصبح العمل مُنتجا، سيصبح كل العالم مُكرّسا للثقافة. انعطف “كامبانيلا” نحو حياة ثقافية تحوم حول محور العبادات والتأملات الدينية، وفكر “بيكون” في أن 9 ساعات من العمل أسبوعيا كافية لضمان دخل مادي للجميع، ويقع توجيه باقي الوقت في سبيل حياة جيّدة. لو تتأمل هذه اليوتوبيات في مجتمعاتنا اليوم، سوف تلاحظ أننا نُنتج ألف مرة أكثر مما كان يقع انتاجه في مجتمعاتهم، وسوف يتأكد لديهم، رغم كل شيء، أننا مُحاصرون بمشاكل اقتصادية مثل فقداننا لمواقعنا. سيقولون بأننا مجانين، وهذا صحيح. نحن مجانين فعلا عندما نهتم بعوامل فائض الإنتاج، في حين أن فائض الإنتاج هذا، لا يفعل شيأ سوى إغراق السوق.

يبقى تخفيض ساعات العمل، عنصرا أساسيا في كل استراتيجية بديلة. من الواضح حسب رأيي، أن 9 أو 10 ساعات من العمل أسبوعيا، كافية لضمان الرفاهية المادية. سوف يتوفر لنا الوقت للاهتمامات الثقافية. لا يمكن أن نعتبر أن 35 ساعة الحد الأقصى من تقليص ساعات العمل، إذا ما أرادت الرأسمالية أن تستمر في الوجود. أثناء الاضراب الكبير لإقرار 35 ساعة عمل في ألمانيا، والذي دافعت عنه بقوة، قال لي المُنظّر الكاثوليكي الاجتماعي “أوزوالد نيل برونينغ”:” صديقي العزيز، أنت تدافع على 35 ساعة من العمل، لكنني أعتقد أن 9 ساعات كافية جدا لتحقيق رغبات الجميع.!” لو أردنا مواصلة العيش في ظل هذا النظام الراهن، لابد من مواصلة التقليص الجماعي من ساعات العمل، حتى نتجنّب أن قطاعا صناعيّا وسوقا تُغذّي كل المجتمع، تضيق شيأ فشيأ، لا معنى لهذا كله. لماذا نشتغل لخمس سنوات إضافية، جدّ يبلغ من العمر 57 سنة، فقط ليضمن التوازن المالي لصناديق التقاعد، في حين أن ابنته التي تبلغ 40 عاما، تُعاني من البطالة، وحفيده ذو ال19 عشرة سنة لازال يبحث على تربص؟ لماذا نُجبر هذا الجد على العمل ل6 سنوات إضافية نحرم منهم الجيل الجديد؟  هذا نظام سخيف كليا ولا انساني يرتهن الكرامة والاعتزاز بالذات.  يجب إيقاف العمل التجاري، اختزاله وإعادة توزيعه على كامل المجتمع، حتى نتجنب وضعية البطالة الكثيفة التي تشمل الجميع، وفرض الاستغلال والعبودية الطوعية على أولئك الذين يشغلون وظيفة ثابتة. لأن العذاب التي يُسببه العزل هو الوجه المُكمّل لهذه الوضعية المحتّمة، التي تتسبب في نسبة كبيرة من الأمراض المهنية بسبب الخوف واستغلال الأُجراء. توجد اليوم عديد الأمراض التي يتسبب فيها العمل، وتتضاعف حالات الضغط النفسي علاوة على الانتحار. تضاعف في السنوات الأخيرة عدد الذين يخضعون لعلاج نفسي في ألمانيا وتدنت نسبة الامراض العضوية، في حين انتشرت الأمراض النفسية. لنأخذ الآن مثال الأسرة. لا وجود للأسرة البرجوازية بالمعنى الهيغلي للكلمة، بالنسبة الى هيغل، تتجسّد العائلة في الزواج، الخصوصية والتربية. إذا كانت العائلة لا تزال موجودة باعتبارها نظاما اجتماعيا أو كمؤسسة، يجب عليها اليوم أن تتطور تحت أشكال مختلفة تماما، وفق صيغة علاقات جيليّة جديدة. يسمح ذلك بتثبيت الانتقال الثقافي الذي لا يمكن له أن يتم إلا وفق علاقات القرابة. لكي يستطيع أي فرد مواجهة الحياة، لا بد له من أن يعيش هذه الوضعيات من التأهيل من خلال القرابة، التي لا يُؤمّنها أضخم حاسوب. إن وجود 48% من الأسر في الولايات المتحدة الأمريكية بعائل واحد (الأب أو الأم)، يعني أن علاقات القرابة قد وقع محقها، مما تُثير نقاشا نقديا.

حتى نختم، أريد العودة إلى سؤال العولمة. حاولت في هذا العرض أن اُبيّن أننا مسؤولون على كل الإشكاليات التي نُواجهها، ولا دخل للعولمة في ذلك. غالبا ما كان استعمال مصطلح العولمة مُوظّفا لممارسة تأثير من نوع ما على الأجراء. وغالبا ما تتنازل المؤسسات الصناعية في نهاية الأمر بسبب صعوبات الجودة التي تُعاني منها خارج أوروبا. ليست العولمة سبب قلقنا الراهن، بل هي في حقيقة الأمر نتيجة لذلك.

لا بد من الانتباه إلى أننا أمام إعادة بناء لمجتمعاتنا. شيأ فشيأ يبتعد النظام المالي ونظام الإقراض عن الإنتاج. ينهمك الرئيس المدير العام لشركة “بورش” في إعداد توصيف سريع لوضعية شركته، بإعلانه تحقيق 8،5 مليارات من الفوائد من رأس مال يُقدّر ب5،3 مليار أورو. كيف حصُل هذا؟  ببساطة، وقع تحقيق أرباح بقيمة 3 مليارات من خلال عمليات المُخاطرة في السوق المالية. إنها ثمار المضاربة. بصيغة أخرى، يتحقق جزء كبير من أرباح المؤسسات في السوق المالية ثم لا يقع إعادة ضخها في عملية الإنتاج. يتم جنى أرباح من أسواق البورصة بسهولة أكبر من عمليات بيع السيارات. الفضيحة الكبرى في هذه العملية هي أن نقابات السيارات يدعمون بقوة هذه الاستراتيجية. أخيرا وُجد المال بعيدا عن الإنتاج الصناعي. يُقال أيضا بأنه مقابل دولار واحد مُخصص للإنتاج الصناعي، يوجد 300 دولار يقع تدويرها داخل النظام المالي العالمي على طريقة الأشباح.  بسبب هذه الظروف، سوف ينتهي النظام بالانهيار، وهذا ما تنبّأ به البعض. يجب أن تمر الأموال على النظام الإنتاجي بالمعنى الواسع للكلمة، بدلا من تركها تنساب بحرية داخل فلك المضاربة. تلاحظون أنني لم اُثر موضوع الفضاء العمومي المعارض. حتى تأخذ الإشكاليات التي قمت بطرحها في هذه المداخلة شكلا سياسيا، لا بد لأي فضاء عمومي أن يتشكّل بطريقة دائمة ومتناسقة. لا يتم ذلك بالتظاهر في الشارع وتعليق الملصقات على الحائط، إذا لم يقع ترتيب الجدال بإعتباره مشروعا لمسار خلاّق للتملك السياسي، ويتُسع من خلال المداولات الدائمة داخل المدارس، الجامعات والمؤسسات. ينقص شكل سياسي يستطيع ضم وترسيب التجارب المعارضة.

هذه هي الأسئلة التي تُعبّر عنا إذا واجهنا في المستقبل فضاء عمومي كلاسيكي وبرجوازي، أو إذا أردنا إبراز فضاء عمومي معارض بمميزات عاميّة قادر على تأليف التجارب المعيشة وتوجيه الإشكاليات الجوهرية التي نعيشها اليوم. لا يظهر هذا الفضاء إلا في مظهره السطحي داخل الفضاء العمومي البرجوازي البارز للعيان.

المصدر


يُعتبر “أوسكار نيغتOskar Negt”، الفيلسوف الألماني المعاصر (1943-…)، أحد ممثلي النظرية النقدية لمدرسة النقد الاجتماعي المعروفة بمدرسة بفرانكفورت. ينتمي هذا الفيلسوف الى الجناح المناهض للقوى الرأسمالية التي سيطرت على مناحي الحياة الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية والثقافية. يرفض “نيغت” فكرة الفضاء العمومي التي صاغها هابرماس، ويطرح بديلا يتجسّد في فكرة الفضاء العمومي المعارض. كما يشترك في هذا الطرح مع كل من: “ألكسندر كلوغهAlexandre Kluge”؛ “راينر زولRainer Zoll”؛ “غيرهرت براندتGerhard Brandt” و” ديتليف كلاوسنDetlev Claussen”.

من مؤلفاته:

*السياسة كإحتجاج: خطابات ومحاولات حول الحركة المضادة للسلطة، 1971.

*الفضاء العمومي والتجربة: حول تحليل تنظيم الفضاء العمومي البرجوازي والبروليتاري، 1972.

*لا ديمقراطية دون اشتراكية: العلاقة بين السياسة والتاريخ والأخلاق، 1976.

*الأبعاد السياسية والثقافية للصراع من أجل وقت العمل، 1984.

*حول تحديات النقابة، 1988.

*التيار البارد، 1994.

*ماى 1968، المثقفون السياسيون والسلطة، 1995.

*الطفولة والمدرسة في عالم متحول، 1997.

*العمل والكرامة الإنسانية، 2001.

*كانط وماركس، 2003.

*الديمقراطية كنمط حياة، 2010.

*حول السعادة، 2016.


رابط المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى