القلق ليس هو الخوف: حوار مع سينتيا فلوري

[ad_1]

 أجرى الحوار إريك فوتورينو
ترجمة الحسين بوتبغة

تقديم

خصصت الأسبوعية الفرنسة   LE UN Hebdo العدد 422 بتاريخ 09/11/2022 للإجابة عن سؤال: ” كيف نتجاوز القلق؟”، في عالم خرج للتو من جائحة مرعبة أنهكت الاقتصادات الوطنية وخلفت في وجدان الإنسانية ندوبا لن تندمل بسرعة، عالم يعيش تحولات مناخية مندرة بكوارث تتجاوز مفاعيلها آثار جائحة كوفيد 19، عالم عادت فيه نذر  حرب عالمية يهدد فيها استعمال السلاح النووي مستقبل الإنسان على كوكب الأرض.

وقد ارتأينا أن ننقل إلى العربية، من بين مجموع مواد عدد هذه المجلة، حوارا أجراه مؤسسها إريك فوتورينو مع  الفيلسوفة الفرنسية سينتيا فلوري، المحللة النفسية وأستاذة الفلسفة بالمعهد الوطني للفنون والمهن ومديرة كرسي الفلسفة بمستشفى القديسة آن بباريس.

  • ما هي أنواع القلق السائدة في أيامنا هذه؟
  • على المستوى الإكلينيكي، نقف على ترسخ أصناف متعدد من القلق: القلق تجاه الفقر، القلق المرتبط بالمناخ 

وتغيراته، القلق تجاه الجائحة. وهنا، لابد من الإشارة إلى أن مصطلح “القلق” مطاط بشكل يجعله عاجزا عن الاحاطة بكل ما نعيشه اليوم. فحين يتحدث شخص ما عن نفسه، فإن الكلمات التي تتردد بشكل دائم هي: أنا متعب، أنا متوتر، أنا منهك، أنا مرهق. أما حينما يتحدث المرضى عن الإحترار المناخي، أو عن الحرب النووية، أو عن جائحة كوفيد 19، أو عن أوكرانيا، أي بكلمة واحدة حين يتعلق الأمر بجميع هذه الأحداث “المؤلمة”، فإنهم يستعملون مباشرة لفظ “القلق”، كما لو أن هذا اللفظ يعتبر اليوم مناسبا أكثر من غيره للتعبير عن علاقة محددة بما هو مشترك وجماعي. إن الأشخاص يميلون، على مستوى ما هو جماعي، إلى الحديث عن القلق، كما لو أن عدم اليقين مرتبط بشكل أكبر بقدراتنا الجماعية على التحول وعلى المقاومة. إن استعمال لفظ “القلق”  يسائل قدرتنا الجماعية على تغيير نموذجنا التنموي وعلى تغيير طريقة عيشنا داخل العالم، في حين يشعر الأفراد بقدرتهم، باعتبارهم أفرادا، على تحقيق ذلك بيسر.

ولو عدنا بالزمن عشر أو خمس عشرة سنة إلى الوراء ، لوجدنا أن الشعور بالحزن الشديد Le mal-être  كان يكتسي شكلا مغايرا تماما: فقد كان الأشخاص يعتبرون أنفسهم “قلقين” لكونهم يشعرون أنهم دون ما هو منتظر منهم، أو لأنهم غير قادرين على أية إنجازات ذات بال في هذا المجال أو ذلك. كان الإحساس القوي هو هذا الشعور بالتشيؤ، بّأن الأمر  قابل لأن يستبدل، بأن الشخص كالسلعة. أما اليوم، فإنني أرى أن القلق يعكس شعورا عميقا بالتداعي أو بالسقوط المحتمل. فالجميع يدركون أن ثمن تغيير النموذج التنموي باهض جدا، وأن شبح الحرب يلوح في الأفق مجددا. إن القلق يكتسي اليوم طابعا “سياسيا” بشكل كبير.

  • ماهو صنف القلق الذي أذكته جائحة كوفيد 19؟ 
  • خلقت الجائحة نوعا من الاضطراب العام حول مسألة الأجساد: الجسد الخاص في علاقته بأجساد الآخرين. وقد وجد أغلبنا صعوبات في فهم الآليات الخاصة بالعدوى وآليات الوقاية من المرض. صحيح أن الأشكال الشديدة من المرض تراجعت بشكل كبير. لكن مرضى كثرا يشتكون من كونهم خبروا نمطا طويل الأمد من كوفيد 19. إن فهم ظاهرة كوفيد 19 ومخلفاتها ، ليس كما يبدو يسيرا. إنها متعددة الأسباب، ويصعب القول بأننا انتهينا منها. ومن هنا، ينشأ قلق قوي يمكن تلخيصه فيما يلي: ليس الأمر متعلقا فقط بكوني لا أفهم جيدا ما يقع، ولكن بكون عدم القدرة على الفهم والتفسير يمكن أن يطول أمدهما.
  • ما الذي تقوله الفلسفة عن القلق؟ 
  • القلق واحد من أبرز المواضيع التي انشغلت بها الفلسفة، خاصة الفلسفة الحديثة، ما بعد الأنوار، بشكل خاص مع  الفيلسوف الدانماركي سورين كير كجارد  Soren Kierkegaard (1813/1855). هذا، مع العلم بأنه يمكن العثور على كتابات عن القلق قبل تلك الفترة – بطبيعة الحال في غياب اللفظ – عند الأقدمين كالرواقيين والقديس أوغسطين St. Augustin  ،أو عند المحدثين، داخل الإرث الأنواري في الفلسفة الألمانية خاصة شيلينغ Schelling  و هيجل Hegel.

يكفي أن نثير مسألة “الوعي الإنساني” ، التأملي والشقي كذلك، وأن نثير مسألة الجوانية Interiorité  و الإحساس بالمحدودية، لكي يبرز الوجه المظلم لهذه الجوانية. وإن كانت لم ترتبط منذ ذلك الوقت بلفظ  “القلق”، فذلك لأنه كان من الضروري أن يصبح التفكير في القلق “مباحا”، أي بتعبير آخر كان من الضروري أن يتأسس مفهوم جديد للشخص أكثر استقلالا عن الإله.  كان مفهوم “القلق” يفترض أننا خطونا الخطوة الأولى نحو فهم محدودية الإنسان وذلك، من جهة بأن يصبح الحكم بخلو الحياة من المعنى ممكنا، ثم من جهة ثانية بأن يكون بالإمكان الاعتراف بقدرة الإنسان على الاختيار. إن سورين كيركجارد هو منظر “القلق”. والقلق عنده ليس مجرد مصدر أو شعور بالعجز، إن القلق هو الطريقة التي بها يتموضوع الإنسان في العالم: فالفرد لا يصل إلى مستوى “الشخص” إلا عبر تجربة القلق التي هي تجربة وجودية خالصة. إن القلق يوجد في أساس الذاتية الإنسانية؛ إنه إذن، ليس مجرد قصور أو عدم قدرة أو عجز. أن يصبح الفرد شخصا بكل معاني اللفظ متوقف بالضرورة على عيشه التجربة العميقة للقلق، وذلك هو ما يحدد انتماءنا إلى الوضع البشري ويحدد كذلك نمط وجودنا داخل العالم. لقد ألف كيركجارد “مفهوم القلق”، وفي الواقع يبقى مفهوم القلق هو المفهوم المركزي في فلسفته. وقد استطاع كيركجارد أن يحل القلق المكانة المتميزة اللائقة به: فعبر القلق يختبر الإنسان ما ستكون عليه حريته التي هي قبل شيء نوع من الدوار . إن القلق هو دوار الحرية يقول كيركجارد (L’angoisse est le vertige de la liberté).

كان فرويد يعتقد أن القلق هو انحراف للرغبة. هل نحن نرغب في أشياء كثيرة؟ 

  • نعم. ونحن ،في هذا الصدد، نلمح في الفكر الفرويدي أثر الأقدمين، سواء تعلق الأمر  بأفلاطون PLATON أو سينيكا  Sénéque  ، على اعتبار أن جميع مظاهر تعثر الروح وتجارب الاضطراب الداخلي التي يعيشها الفرد، مرتبطة برغبات “موجهة بشكل خاطئ”، رغبات متمحورة حول أشياء ملموسة، معرضة للزوال، خداعة واستيهامية. إن التقليد القديم يعتبر أن التوجيه الصحيح للرغبة هو السبيل لتجنب الاضطرابات المفرطة.

ينبغي أن نفهم هنا أن القلق ليس هو الخوف، أي أنه على عكس الخوف – ليس في حاجة إلى موضوع، بل أكثر من ذلك أنه مرتبط بغياب الموضوع، وأنه سيولد انطلاقا من هذا “الضباب” هذيانا تأويليا سوف يسجن الذات داخل دائرة مغلقة. وبالفعل، فإننا نحن الذين نخلق في بعض الأحيان أصنافا من القلق عن طريق التأويل المبالغ فيه لما يحيط بنا، وعن طريق إسقاط مظاهر عجزنا على الغير. إننا نشعر وكأننا “هذا الشيء السيئ” داخل العالم. وهذا بطبيعة الحال، ما يفتح مباشرة على جنون الشك و جنون الاضطهاد. إن القلق هو كذلك مفهوم نرجسي، بالمعنى الذي تدور فيه الذات على نفسها وتنعكس عليها، متمركزة حول هذا الإحساس بالضيق الشديد، إلى الحد الذي يصبح فيه الفرد منغلقا بشكل كلي أمام ظاهرية العالم.

  • هل تعتبر مواقع التواصل الاجتماعي وطابع التطرف الذي يسم مجتمعنا عوامل تفاقم القلق؟ 
  • نعم. ذلك لأن القلق هو قبل كل شيء فيضان عاطفي. ويمكن أن نهدئ قلقنا عن طريق التخفيض من اندفاعنا. وكل ما يسرع هذا الفيضان العاطفي، كالتقنية مثلا، يفاقم القلق ويزيد من حدته. فتلقي الإشعارات بشكل مسترسل، مثلا، يؤدى إلى تنشيط القلق. إنه يؤثر على زمكان الشخص تحت غطاء يسمى عادة الانفتاح والتواجد المستمر، إنه يغرق الشخص في زمانية تضيق عليه بشكل مستمر. أضف إلى ذلك ما يرافق التعامل مع مواقع التواصل الاجتماعي من آنية ومن مسامية (Porosité )  تؤثر بشكل قوي على الشخص داخليا وخارجيا، مما يؤدي إلى تنشيط القلق.

إن مواقع التواصل الاجتماعي عين لاتنام. وبما أن القلق يحيل على مفهوم نرجسي، فإن مواقع التواصل الاجتماعي، وهي التي تمارس الرقابة على الأفراد بشكل مستمر، تعمل بشكل كبير على تنشيط الحساسية البارانوية لدى الأفراد. وتنشيط ما نسميه التنافس بالمحاكاة (La rivalité mimétique) أي السلوك الذي يقوم على محاكاة رغبة الغير، مع ما يرتبط بذلك من تنافس وميل إلى العنف والتدمير. إنها تولد القلق: القلق من كون الفرد موضوعا لنظرة الآخرين، القلق من كونه ينظر إلى نفسه ويقارن نفسه بالآخرين … إننا نشعر بأننا معرضون للعنف باستمرار. ومواقع التواصل الاجتماعي فضاء أثير للعنف، وعادة ما يتحدث الناس عن كونهم تعرضوا للعنف. إنهم يميلون إلى وصم أي تبادل غير سار إلى هذا الحد أو ذلك مع الغير بأنه عنف مسلط عليهم. ومن جهة أخرى، فنحن جعلنا من العداء ومن الميل إلى التطرف في كل شيء ومن الثنائية ورفض التعقيد النمط المفضل لمبادلاتنا على مواقع التواصل الاجتماعي. وهذا الأمر مرهق بشكل كبير.

  • هل أنماط القلق التي نعاني منها اليوم موجهة نحو الماضي أم تجاه المستقبل؟ 
  • في الواقع، فإن القلق مرتبط دوما بالمستقبل أو على الأقل بالحاضر في بعده المتجه نحو المستقبل. فحين نرتكب خطأ ما، فإننا نقلق بشكل أساس بشأن الانعكاسات المحتملة له في المستقبل، بينما أحداث الماضي، خاصة الماضي البعيد، لا تعود تقلقنا، قد تحزننا، ولكنها بكل  تأكيد لا تترجم عندنا إلى قلق.
  • هل لقلق اليوم علاقة ما بقلق الأمس؟ 
  • هناك قلق نوعي يرتبط بمرحلة من تاريخ كوكب الأرض حيث بدأ نشاط الإنسان، مثله مثل التحولات الجيولوجية والجيوفيزيائية، يؤثر على الكوكب وعلى مناخه (Angoisse anthropocénique). وحين نجري استجوابات مع مواليد فترة الانفجار الديمغرافي في أوروبا بعد الحرب الكونية الثانية (أي من يسمون Boomers) فإن النتيجة هي أن هؤلاء مقتنعون بأن كونهم ولدوا بعد الكارثة قد وقاهم من الإحساس بقلق جماعي. لقد كان قلقهم بالأحرى من النمط الوجودي، أي أقل تمركزا حول انهيار جماعي محتمل، بما أن هذا الانهيار وقع للتو وأن من الضروري التخلص من شبح الرعب الذي صاحبه. إن عصرنا في الواقع أكثر استجابة لما كتبه ألبير كامو عن عصره، وذلك بالنظر إلى هذا الإحساس بعالم يتهاوى، وبالنظر إلى الانهيارات المتتالية التي نعيشها: جائحة كوفيد 19، الاحتباس الحراري، تعرض التنوع البيولوجي على الكوكب للخطر، حركات الهجرة والتنقل الجماعي إلخ… هذا دون نسيان أن مفعول القلق المرتبط بهذه الانهيارات يضاعفه العجز عن الفعل. عادة ما يقال: إما المواجهة وإما الفرار (Fight or flight). بيد أن الفرار ليس بالأمر الهين، لأننا نمتطي جميعا ظهر نفس السفينة. والفرار من المجتمع هو إما “ترف” وإما أنه ذو تكلفة عالية. إذن إن لم نختر المواجهة والفعل والنضال، وإن لم ننسحب ونفر – وهذا حال أغلبية الناس- ، فإن القلق يلاحقنا. إن القلق ينشط مع وجود الشعور بالضغط المزدوج. إننا نشعر وكأننا وقعنا في فخ، وأخيرا، فالقلق الوجودي من الصنف الذي تحدث عنه كير كجارد يبقى ثابتا ملازما لجميع فترات التاريخ.
  • ما العمل في مواجهة القلق؟ هل يمكن للقلق أن يساعدنا؟
  • القلق المفرط، لا. فهو أشبه بالغور السحيق. وبالمعنى السيكولوجي، فإن أزمات القلق الحقيقية لا تحتمل. ويكون الشخص مع هذه الأزمات محطما بشكل كامل، جسديا ونفسيا. وإذا كان هناك من شيء يمكن فعله تجاه أصناف القلق هذه، فذلك هو عدم تركها تكبر ، في إطار “عدم اليقين” هذا الذي يزيد من حدتها. إن دور النشاط التحليلي والفلسفي هنا هو من أجل فك الرموز، من أجل التفكيك، ومن أجل التأكد من الموضوعية الفعلية للقلق، وذلك كله في أفق التخفيض من انعكاساته السلبية. فمن الضروري التحرك منذ البداية من أجل ألا يشتغل القلق ضد الذات. وإذا كان توظيف التعبير الشفهي مهما هنا، فإنه مع ذلك يبقى غير كاف، فلو سألنا الفنان التشكيلي جيرار غاروست Gérard Garouste عما فعل بقلقه، فإنه سيشير دون أدنى تردد إلى لوحاته. إن محاولة التسامي بالقلق نوع من التفسير.
  • هل يدفع القلق إلى الانطواء؟ 
  • نعم. فأول استراتيجية للدفاع هي الانطواء، هي الانغلاق على الذات. وهذا طبيعي لأن القلق هو إلى حد ما نوع من الخواء الداخلي، نوع من المسامية الشاملة (Porosité). فالفرد يميل، عن طريق رد فعل مباشر، إلى وضع الحدود مع الآخرين، إنه في وضعية القلق يميل بشكل غريزي إلى الانغلاق. و بما أن لاوجود لقلق جيد، مثلما يوجد كوليسترول جيد، فإننا لا يمكن أن نتجنب الإصابة بالقلق. القلق جزء من التجربة الوجودية للفرد. ومن هذا المنطلق، لا ينغي أن يوسم بالسلبية. ومع ذلك، فكل شيء يتوقف على درجة القلق. ومن الضروري أن يتواجه الفرد مع القلق إن كان لا يرغب في أن يصبح القلق سيد الموقف.

العنوان الأصلي للحوار

 LE UN Hebdo n° 422 du 9-11-2022. – Entretien avec CYNTHIA FLEURY : « Il faut comprendre que l’Angoisse
n’est pas la peur. »- Propos recueillis par Eric Fottorino.   

[ad_2]

رابط المصدر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى