الموت ليس إلا غياب الفضول

ومن ثم يعالج هذه البيانات التي تأتيه من المحيط الخارجي ويراكمها لديه لبناء أفكار تجتمع مع بعضها لتشكيل ما يسمى بالوعي، وبعدها يقوم هذا الوعي باستلام بيانات أخرى من الحواس ومقارنتها مع قاعدة البيانات الموجودة في الدماغ والذاكرة ومع ما توصل إليه من مبادئ وقوانين يعتقد أنَّها صحيحة.

الوعي محصور:

لذلك فإنَّ الوعي بشكل أو بآخر محصور ضمن البيئة التي يوجد فيها الإنسان، أو ضمن نطاق الأفكار الموجودة حوله أو ضمن البلد الذي لم يفكر يوماً بمغادرته، لذلك يبقى الوعي في حالة من الاستقرار أو الثبات، وقد يحرز بعض التقدم إلى الأمام، ولكنَّه في الصورة العامة ما يزال يدور في المسار نفسه.

الفضول يكسر الحصار المفروض على الوعي:

هنا تأتي أهمية الفضول في نقل الوعي إلى مسار آخر مختلف تماماً عما عهدناه واعتدنا عليه، وينقلنا من حالة المعلوم إلى حالة المجهول، ويحول الروتين إلى شغف، وعندما يجد الوعي نفسه في منطقة مجهولة بالنسبة إليه، فإنَّه يشعر بنوع من القلق أو الترقب أو الحذر، وبكل الأحوال هي حالة تركيز قصوى ناجمة عن شعور بالخطر الوجودي، ونحن البشر مبرمجون على التحفز في أوقات الخطر.

هذه الحالة الجديدة التي ينقلنا إليها الفضول تجعل الوعي يعمل بكفاءة وفاعلية أعلى؛ إذ يجمع البيانات من البيئة الجديدة بشغف أكثر ورغبة في الاكتشاف والتعرف إلى مفاهيم أو أحاسيس أو أفكار جديدة لم يسبق له اكتشافها أو التعرف إليها.

ماذا يحدث إن بقي وعينا دون أي فضول؟

دون الفضول سيبقى الوعي يرفض الأفكار الجديدة أو التجارب الجديدة؛ وذلك لأنَّ علاقتنا مع المجهول في الأحوال العامة هي علاقة رعب أو عداء، وهذا ما يؤدي إلى تشكل ما يُعرف بمنطقة الراحة التي تعوق التطور والتقدم في أغلب الحالات، وهنا يأتي دور الفضول في كسر نمطية العلاقة مع المجهول وجعلها أقرب ما تكون إلى الصداقة أو حتى الامتنان الذي يجب أن نشعر به تجاه المجهول الذي يطور أداءنا ومهاراتنا ومعارفنا وينقل وعينا إلى مستوى أعلى.

ما هي أهمية الفضول كما يقول خبراء التنمية البشرية؟

يقول أغلب مدربي التنمية البشرية وتطوير الذات إنَّهم في مرحلة ما من مراحل حياتهم كانوا ينظرون إلى الحياة وإلى أنفسهم نظرةً بسيطةً، ولكنَّهم مع بدء الصحوة الفكرية والروحية لديهم أصبحوا فضوليين أكثر حيال ذواتهم وباتوا يعرفون أنَّ في داخلها الكثير من العوالم التي لم يتم اكتشافها، وهنا يكتمل منسوب الفضول لديهم، وهذا ما يدفعهم إلى الغوص في تلك المناطق المجهولة واستغلال أنفسهم بوصفهم بشراً بالشكل اللازم.

الموت هو غياب الفضول:

كثير من الناس الكبار في السن الذين وصلوا إلى عمر الستين على سبيل المثال يأتون إليك وأنت شاب في مقتبل العمر ويقول لك: “لقد عشت كثيراً وجربت كل ما يمكن تجربته في الحياة، ووصلت إلى ما أردت الوصول إليه”، والحقيقة أنَّ هذا الكلام هو عبارة عن موت للإنسان وهو على قيد الحياة؛ وذلك لأنَّ أغلب الأشخاص ينظرون إلى الحياة على أنَّها دراسة وزواج وسفر وسياحة وإنجازات معينة يحققها الإنسان ثم يختم الحياة ولا يبقى لديه أي شيء لفعله، ولكنَّ الفضول هو ما يجعلنا أشخاصاً على قيد الحياة بالمعنى الذهني والروحي والفكري، فتأمل أيَّة لوحة أو منظر طبيعي أمامك، فإنَّك قادر على رؤية المشهد بطرائق لا نهائية، وذلك حسب مستوى الوعي لديك.

شاهد بالفديو: ما هي صفات الأشخاص الفضوليين؟

 

كيف تطبق الفضول في حياتك؟

على سبيل المثال، عندما تلعب لعبة ما أو تُجري بحثاً في مجال معين أو تتقدم في سلمك الوظيفي، فإنَّك في اللحظة التي تقول بها لنفسك: “لقد ختمت كل شيء” أو تشعر بها أنَّك عرفت كل ما يمكن معرفته، هذه هي اللحظة التي يبدأ فيها الموت الحقيقي للشغف والفضول؛ وذلك لأنَّك ستصاب بالكسل وتتوقف عن عملية التطور والتعلم والنمو، لذلك لا تسمح لنفسك بالانكفاء.

كيف توظف الفضول في تطوير مهاراتك؟

على سبيل المثال، لو كنت تعمل في مجال الخطابة، فقد تشعر بعد فترة معينة أنَّك وصلت إلى كل ما يمكن الوصول إليه، وفي اللحظة التي تأتيك فيها هذه الأفكار، خاطب نفسك: “يوجد الكثير من الأشياء التي لم أتعلمها بعد”، وتوجد عدة طرائق جديدة لإيصال المعلومة إلى المتلقي بشكل أبسط، فلا بد أن أعمل أكثر على نبرة الصوت أو مخارج الحروف أو لغة الجسد، وسأحاول أن أنفتح أكثر على الأفكار والآراء التي تناقضني أو تنقدني، ولا بد من وجود طريقة لاستهداف شريحة أخرى من الناس لم أصل إليها بعد.

كل هذا الكلام ليس وهماً؛ بل هو حقيقة حياتية لا يمكن تجاهلها، فلا يمكن لأي شخص أن يصل إلى المثالية في كل الجوانب، ولا بد من وجود جوانب نقص يمكن تطويرها والعمل عليها، وفي حال وظفت فضولك في حياتك سواء في العلاقات الاجتماعية أم العاطفية أم في مجال المال والأعمال أم على الصعيد الدراسي أم المهني أم الوظيفي، فإنَّك ستُحدث فرقاً لا يستهان به في حياتك؛ بل ستنقلب حياتك رأساً على عقب.

كيف توظف الفضول في علاقتك مع شريك حياتك؟

على سبيل المثال، عندما تنظر إلى شريك حياتك وتقول لنفسك: “لقد عرفت كل شيء يخص هذا الشخص أو حفظته عن ظهر قلب”، انظر إليه بعين الفضول “إنَّه كنز من الأشياء الجميلة والغامضة التي لم أكتشفها به بعد”، وحاول أن تنظر إلى الشريك لملاحظة أي تفصيل صغير في وجهه أو شعره أو تجاعيده لتكتشف فيه الجمال الذي لم تكن واعياً له، وحاول أن تصغي بعمق إلى نبرة صوته وطريقة كلامه وستشعر بالفضول والشغف.

عندما تستيقظ صباحاً وتنظر إلى شريك حياتك، وتقول في نفسك: “نعم إنَّه يمتلك الكثير من الطاقات والمستويات في داخله التي سنكتشفها معاً ونعيشها ونستمتع بها بصفتنا زوجين”، وهذا ما يجعلك محباً أكثر لنفسك وشريكك، ويجعل ذهنك حاضراً معه ومهتماً به بطريقة رومانسية يقودها الفضول والشغف، وبعيدة كل البعد عن الملل أو الروتين.

كذلك الأمر بالنسبة إلى المال، حاول أن يكون لديك الفضول لمعرفة طرائق جديدة لاستثمار المال واستغلاله وحسن استخدامه في الأزمات وادخاره بطرائق صحيحة تجعله بمعزل عن تقلبات الاقتصاد.

ما هو أهم مجال نوظف فيه طاقة الفضول؟

لكن ما هو أهم من ذلك بكثير هو أن تبقى غريزة الفضول حيال نفسك وذاتك موجودة؛ لذا لا تنظر إلى نفسك بوصفها منطقة معروفة أو مألوفة؛ وذلك لأنَّها ليست كذلك؛ بل هي عبارة عن عدد غير محدود من المستويات الطاقية التي يجب عليك اكتشافها والانغماس في تفاصيلها.

عند الاستيقاظ كل صباح انظر إلى ذاتك بطريقة فضولية وأنَّك تريد أن تختبر مشاعر جديدة وتكتشف في ذاتك مهارات أو مواهب أو قدرات لم تكن تتوقع وجودها، فالإنسان في الحقيقة منجم غير محدود من المشاعر والطاقات والمهارات، ولا يمكن له الوصول إلى أي منها دون التحلي بالفضول.

فضول الاهتمام وفضول الحرمان:

يميز البحث الجديد الذي نُشر في مجلة (Research in Personality) بين فضول الاهتمام وفضول الحرمان؛ إذ يشير فضول الاهتمام إلى الدافع العام لتعلم أشياء جديدة والرغبة في الاستكشاف، بينما يشير فضول الحرمان إلى الرغبة في تقليل المشاعر السلبية المرتبطة بعدم اليقين.

أوضحت مؤلفة الدراسة “كلير ماري زيديليوس” مديرة الأبحاث في مجموعة البحث العلمي في (YouGov): “عندما يفكر الناس في الفضول، لا أعتقد أنَّهم بالضرورة يمتلكون هذا التمييز، لكن عند الإشارة إلى ذلك، أعتقد أنَّ الكثير من الناس يمكنهم معرفة أيهما يدفعهم بقوة أكبر”، ولاحظت “زيديليوس” أنَّ هذا التمييز ليس شيئاً كشفه هذا البحث؛ بل يوجد أشخاص آخرون فعلوا ذلك من قبلنا.

ماذا يعني مفهوم فضول الحرمان؟

في سلسلة من أربع دراسات شملت أكثر من 2000 مشارك، وجد الباحثون أنَّ الأفراد الذين يعانون من فضول الحرمان يميلون إلى الحصول على درجات أقل فيما يسمى بمقياس التواضع الفكري، وبعبارة أخرى، الأشخاص الذين وافقوا على عبارات مثل “يمكنني قضاء ساعات في حل مشكلة واحدة لأنَّني لا أستطيع الراحة دون معرفة الإجابة” كانوا أكثر عرضة للاتفاق أيضاً مع عبارات مثل “عندما يتعارض تفكير شخص ما مع أهم معتقداتي يبدو الأمر وكأنَّه هجوم شخصي”، ومن ناحية أخرى، ارتبطت المستويات الأعلى من فضول الاهتمام بنمط معاكس من النتائج.

المستخلص المثير للاهتمام والجديد من دراستنا هو أنَّ نوعي الفضول مرتبطان بنتائج مختلفة جداً؛ إذ قالت “زيديليوس” لـ (PsyPost): “الاختلافات تكمن في المعرفة العامة للناس، وفي طريقة معالجة الناس للمعلومات، وفي الأخطاء التي يرتكبها الناس مع المعلومات”.

في الختام:

الهام في الحياة أن نبقي حس الفضول حياً في أعماقنا، ولا نسمح للظروف بأن تقتله أو تضعفه، ويجب أن ننتبه إلى أنَّ الفضول لا يعني معرفة كل شيء؛ بل هو اعتراف ضمني بأنَّنا لا نعرف كل شيء ولن نعرف كل شيء، وسنبقى في رحلة كر وفر مع الأسئلة والأجوبة في هذا العالم المليء بالمتناقضات.


رابط المصدر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى