فرويد والدين

الكاتبصوفي دو ميجولا ميلور
ترجمةالحسن علاج

كرّس فرويد جزءا مهما من عمله في تحليل مصادر المعتقد الديني، إوالياته ونتائجه، وحتى مستقبله . فإذا ما وجد في خطابه بعد علموي، والذي يمكن أن يبدو خطابا اختزاليا، فإنه ثمة أيضا فائدة استثنائية للتمثلات التي تنتج عنه، المؤثرات التي ترافقه وبصورة أعم، المخزون الغريزي الذي تتم تعبئته فيه . إنه يطور معركة نضالية بهدف معارضة رؤية “علمية ” للعالم التي سترتبط بالتحليل النفسي، برؤية دينية . فعبر تحليلاته، وأحيانا انتقاداته اللاذعة، ينبثق مفهوم مركزي، هو مفهوم الـ” حاجة إلى الإيمان “، الذي يرافق ويُضايق الذات التي سيتوجب عليها أن تجد لها منافذ مختلفة، منفذ العلم الذي هو أجدر بالتفضيل لديه، إلا أنه ليس الأسهل . لأن العلم لا يقدم نفسه كمجرد بديل، ثم إن الإله العقل له متطلبات أخرى مثل إله الأديان . 

    من المعلوم أن العقل Logos) (والإيمان سوف يسيران أو سيسعيان، تبعا للعصور، إلى المضي قدما، جنبا إلى جنب، تليها فترات أخرى حيث سيشترط العقل،بشكل متناوب، الإيمان بتقديم أدلة على وجاهة مضامينه، كما أن الإيمان سيقاوم، بشكل قاطع،   الدليل الوحيد على تجربة الوحي . سيحدث كما هو الحال في الخرافة، أن شخصية متشككة ثالثة، تسعى في هذا السياق، إلى دفع المحتربين إلى ذات الموعد،مع وضع أسس العقل موضع تساؤل في آن واحد، فكرة السبب التي لن تكون إلا نتاج لعبة ال

تمثلات ومضامين الإيمان، أوهام محضة يبتكرها البشر بغاية تعزيز أملهم في حياة أفضل والمقاومة ضد خشية الواقع، وفي المقام الأول خشية الموت . 

    إن أخذ ال” حاجة إلى الإيمان 1 ” على محمل الجد هو ضرورة إذن، إذ إن نتائجها مختلفة وخطيرة، لا شك في ذلك . سيكون من السذاجة بمكان معارضة ” إيمان ” و ” معرفة “، كما لو أنه ثمة صورة لتطور الحياة النفسية التي ستنتقل من نرجسية البدايات أو الاعتقادات الأرواحية animistes) (، إلى وضع ديني في تمديد علاقة الطفل بالأب وستبلغ أوجها في التجربة المعيشة المكتملة النمو للعلم الذي  سيصبح بطريقة أو بأخرى علامة على النضج النفسي . لأن الحاجة إلى الاعتقاد لا تمتد بالضرورة إلى الحاجة الدينية، وإن كانت هذه الأخيرة تعبيرا عن ذلك أكثر صدقا . إن الغايات الدنيوية عديدة جدا، لو تم اعتبار أنها تعمل في الغالب الأعم،  على تسريب الحقيقة الدينية ذاتها، التي يتم تشويهها منذ ذلك الحين في السياسة والتعصب . من الاعتقاد بكافة أشكاله إلى أشكال تعصب ما قبل المراهقة من أجل شخص يثير الحماس والإعجاب ومن الانحرافات شديدة الخطورة التي ستفضي إلى مطالبة عوامل مساعدة مختلفة ( مخدرات، كحول، أخطار، سرعة، طوائف ) على مواصلة الإيمان بصور القدرة القاهرة، تمتد الحاجة إلى الإيمان إلى الحياة اليومية الأكثر ابتذالا . 

تأثير الإيمان

    لا وجود لأي دليل قد أقنع بالفعل  جاحدا كبيرا بوجود الله لأن الخطوة المنطقية لتدبير البرهان تشتغل في كون مختلف تماما عن كون الإيمان . إن الله يدرك بالقلب كما قال باسكال، ترتهن البينة بالاعتقاد الراسخ وليس بالبرهنة، وكون أن الفلاسفة كانوا يشعرون بالحاجة إلى البرهنة  على وجود الله، يرتبط بجوهر الفلسفة التي تستوجب عدم ترك أي شيء خارج موضوعها، وليس إلى ضرورة إقناع الجاحدين بوجود الله . حينما شرع كانط في بحثه حول ” الأساس الأوحد الممكن لإقامة الدليل على وجود الله “، فقد فتحه على خطاب لا يمتلك شكلا صرفا لكنه يكمن في موضعة رغبة الفيلسوف التي لا يمكن مقاومتها في الاستفسار عن هذه البرهنة مثل منهج يتوقف على الحاجة النظرية . سيعثر المرء على العديد من الأمثلة في فلسفة البراهين المماثلة، حيث يلاحظ جيدا أنها لا تنطوي على أي علاقة شخصية بين الله والبشر، خلافا للمبدإ الديني . 

   يثير إله الفلاسفة هذا سخط فرويد، الذي يقارنه ب” عصير تفاح “، بمعنى مشروب ” يتكون من نسبة مئوية ضئيلة جدا من الكحول ـ إذا لم يكن ثمة كحول على الإطلاق ؛ وبالرغم من ذلك فإن الناس يشربونه حتى الثمالة 2 ” . سوف نواصل هذا النقاش فيما يخص انتقاد فرويد  للدين، على أن ما يهم هنا، هو التشديد على الاقتصارعلى الاختلاف بين الله كتمثل وتأثير . يتوقف الدين على هذا المظهر الثاني وليس على الأول، وهو يشكل أيضا نقطة التأثير للتحليل النفسي الذي لا يتحاور، في هذا السياق، لا مع الفلسفة ولا مع اللاهوت . 

    بعيدا عن تجاهل هذا البعد، طالما أن محاوريه متنوعون 3 فقد سعوا مرارا من أجل إقناعه، قام فرويد بصياغة مقاربة نوعية، سوف نعمل على فحص عناصرهاالأساسية تبعا لمحورين أساسيين لا ينصهران : النوستالجيا nostalgie)  ( والشعور الأقيانوسي (sentiment océanique) . منطلقا من كون أن فرويد حاول اختزال الشعور الأقيانوسي، في رغبة نوستالجية، بالنسبة للأب( وبالنسبة للأم في غابر الأزمان )، سوف أبذل جهدي لمقارنة هذين البعدين : شعور أقيانوسي ونوستالجيا، بغاية تحديد تباينهما، وربما تعارضهما . يعيدنا الشعور الأقيانوسي إلى أشكال عتيقة للاشتغال النفسي والتي ليست مناسبة لصورة الكلمة، وهي بذلك مؤسسة للابتكارات ولاسيما الشعرية منها . 

الشعور الأقيانوسي، دليل على التفكير العتيق

    مستلهما تبادلاته مع الكاتب الفرنسي رومان رولان (Romain Roland) التي تم الشروع فيها عام 1923، شرع فرويد، ست سنوات فيما بعد، في كتابة قلق في الحضارة عبر الاعتراض الذي وجهه له هذا الأخير، عن كونه لم يأخذ بعين    الاعتبار في نقده للدين ( مستقبل وهم، نشر في عام 1927 ) المصدر الواقعي للتدين religiosité) ( . لذلك سوف يحاجّ فرويد محاوره بطريقة محكمة للغاية . فقد اعترف بوجود ” شعور أقيانوسي ” لدى بعض الأشخاص، والذي يرغب جيدا في اعتباره أمرا واقعا، بمعنى اعتباره دليلا ذاتيا بمقتضى الظروف،  لمعيش لا يقتسمه (يقول)، على أنه لا وجود لأي سبب للتشكيك فيه . يوجد المرء في موقف تحليلي على وجه التحديد كالموقف الذي يمكن أن يواجهه المرء، أمام ذكرى يرويها مريض ( يمكن أن تكون دقيقة أو لا تكون )، أو إدراك هذياني ( وبالرغم من أنه لا يقدم إجابة على واقع خارجي مُدرك،  وهو ليس أقل وجودا بالنسبة للمريض ) . ومع ذلك، فقد تساءل فرويد حول التأويل الذي يمكن تقديمه لهذا الشعور، أعني حول أصله .ألا يكون من الملائم أن نجد له جنيالوجيا ما، إرجاعه إلى شيء آخر ؟ لقد أعلن هنا بأنه لا يعتبر إطلاقا الشعور الأقيانوسي كمعطى أولي، بل كنتيجة لتطور، الشيء الذي يعلن عن مشروع تقسيمه إلى عناصر مكوِّنة 4

    عندما لاحظ فرويد أنه من ” الصعب معالجة المشاعر بطريقة علمية ” ( قلق في الحضارة، ص 6)، ما يستدعي القول المأثور الذي يفيد أن ” الأذواق والألوان، لا يمكن مناقشتها “، ومع ذلك فقد أثار الانتباه أنه بإمكان المرء ” محاولة وصف تجلياتها الفيزيولوجية “، وهو ما سيستدعي النظر إليها لا من خلال زاوية التمثل، ولا حتى من خلال زاوية التأثر،   بل مثل انفعالات . يمكن أن يُفهم من خلال ذلك تغيير الوضع الجسدي للذات، التي تكون تحت تأثير معيش لها معرفة به، وحتى أنه يمكنها تخيل الدافع، حالة يمكن إدراكها بالنسبة للآخر ويمكنها إذا اقتضى الحال، أن تفضي إلى استجابة مماثلة . بإمكان العاطفة، سواء أكانت سرورا، خوفا أو غضبا، أن تنطوي على وصف فيزيولوجي، وليس من الأكيد أن هذه المقاربة، يمكن أن تكون الأكثر خصوبة، أيضا سوف يوطد  فرويد العزم على  على أن يخصص لها الرعاية الاعتيادية لتحليل غريزة، أي تحللها إلى تمثل وتأثير . سيتعلق الأمر إذن برصد التعبير النوعي، في الشعور الأقيانوسي، لطاقة غريزية لا تزال في حاجة إلى تعريفها ثم تمثل، حتى وإن كان متصلا بالدال ” أقيانوس “، يفضي بدون شك إلى تمثلات أخرى، غير مسماة، ما تحتفظ به الذاكرة من موضوعات الماضي . 

    لذلك فإن فرويد ليس على أتم الاستعداد لاعتبار أن الشعور الأقيانوسي يعتبر ملائما، لشرح أي شيء، وبالأخص الحاجة الدينية . وبالمقابل، مع إنكار الحقيقة التي يتقاسمها، فهو موافق على الاهتمام به، خصوصا وأن هذا الشعور، يقدم نفسه، مثل متراس للإيمان . لقد وطد العزم  على إخضاع نفسه إلى اختبار نقدي ما يجعله ” مصدرا وأصلا ” fons et origo) ( ( باللاتينية في النص ) لكافة الاحتياجات الدينية . ألا يبدو  له هذا ” الشعور الأقيانوسي ” مشكوكا فيه جدا، وأنه ينبغي عليه، شأنه في ذلك شأن الأنا في مقاومته للهو، السعي إلى تجفيف بحر الجنوب zuydesse) ( ؟ ينفلت منه الموضوع5 و، في مواجهة تلك الاستعارات المائعة، سوف يعارض فيما بعد  لعبة غريبة لتشييد أحجار قديمة ورومانية . 

    يبقى أن هذا التحريض قيد التأمل، والذي وجهه إليه رولان يتميز بالخصوبة على نحو رائع، يقوده، في نفس الوقت، إلى تعميق وإيضاح عناصر متواجدة قبلئذ، ولاسيما في كتاب تشكيلات مبدأي سريان الأحداث النفسية b1911) (، على أنها تعثر هناك على تناغمات جديدة . 

الشعور الأقيانوسي 

   حينما ذكّر رومان رولان فرويد بذلك، فبغاية وصف إحساس بالأبدية،على أنه بإمكان المرء أن يتصوره، انطلاقا من الرؤية إلى البحر، التي تعطي انطباعا خاطئا بالانفلات من الصيرورة، بما أن لا شيء يثبت فيها، أو رؤية تحت الماء، مع ما تمنحه من الاستيهام  بملاقاة عالم بدائي . فإذا ما تصادت هذه التجربة الأقيانوسية مع الإيقاعات التي هي إيقاعاتنا، فإنها تقودنا إلى العثور عليها، من خلال انعطافة انفتاح لا محدود نحو الخارج . خلافا لتجربة اللحظة، فهو يُؤمّن،كما قال برغسون، ” ذاكرة داخلية للتغيير ذاته 6  ” . إن اختيار الإحالة المائية، هناك حيث توجد صور أخرى مثل صورة صمت البرية، أو صمت القمم الجبلية، يكون بإمكانها المثول من أجل الإيحاء بصورة اللانهائي فيما وراء حدود البشر، يسجل إيقاعا،حركة وترجحا،محيلا على صور عتيقة . ومع ذلك، فليس البعد الزمني هو ما يبقي عليه فرويد، بل بعد الفضاء الذي سيتمدد عليه . 

   إذا كان المعيش الأقيانوسي يتميز بالإحساس بالشساعة، فهو يدين به إلى الرؤية، التي تساعد على معرفة خط الأفق، ليس كحد بل كنقطة هروب تنفتح على المماثل بطريقة أبدية . 

   يمكن تقريب الشعور ال”أقيانوسي ” بالتجربة العتيقة التي هي أدنى من الكلمات، والتي يشير إليها فنيكوت Winnicott) ( مثل ” اللاتكامل ” . وكون أنه يميزه عن التفكك فهو يحث على مساءلة الهوية، التي يسعى فرويد إلى بلوغها، بين الشعور الأقيانوسي وال” إحساس بالعجز الطفولي “Hilflosichkeit) (، الذي لا يقوم به مباشرة، خلافا لما يدعي . 

” عرفان، الإدراك الذاتي الغامض للمملكة الخارجية للأنا، الهو ” 

    هذا المقطع، هو آخر ما سودته يد فرويد 7 عام 1938، وهو يشير في نفس الوقت، إلى الأهمية التي كان يوليها للمسألة الدينية، التي تم إنعاشها، فعلا،ربما، من خلال الموت الوشيك، والإصرار على الانقلاب الذي يقترحه، في تحليل الشعور الأقيانوسي . ويمكن اختزاله في العبارات التالية : إن اللانهائي الأقيانوسي يوجد بداخلنا ثم إننا ندركه بشكل مبهم، عاملين  على إسقاطه بخارجنا

    سيكتب إلى غروديك Groddeck) ( في عام 1925، قبل نشر كتاب مستقبل وهم بسنتين  : ” ففي هوك ça) (، لم أتعرف بطبيعة الحال على هوي المتحضر، البورجوازي، المجرد من العرفان 8 ” لقد كان موقف غروديك كافيا لإثارة سخط فرويد لأنه لم يكن موقفا إلحاديا على الإطلاق، بل لا أدريا agnostique) ( . فأن يكون فرويد قد أسره مفهوم الهو، إلى درجة استعارته المصطلح من غروديك، يبرز إلى أي مدى أن مسألة  المحايثة ماثلة بالنسبة إليه، في نفس الوقت،الذي يسعى فيه إلى ” علمنتها “،دون أن يتردد في رد التصورات العجائبية لغروديك إلى ” جسم العلم 9 ” عندما ظهر في نفس السنة (1923) كتاب الهو وكتاب الأنا والهو

    سيتوصل فرويد، ست سنوات فيما بعد، في سياق حواره مع رومان رولان، إلى صياغة دقيقة للغاية لمسألة المحايثةimmanence) (، عاملا على اشتقاق الإحساس بالانتماء إلى الصورة الكبرى Grand Tout) ( للمعيش الطفلي النرجسي الذي يجهل العالم الخارجي . يعتبر قلب المنظور جديرا بالاهتمام، يمكن أن نستعرض هنا خطوطه العريضة : 

   ـ الأنا Le Moi) ( ” مستقل، واحد وغاية في التميز ” ما هو إلا مظهر خدّاع للهو . وهو ليس متداخلا مع الجوهر ومكتفيا ” بكونه كائنا ذا طابع لاشعوري ” . من الطبيعي إذن أن الإدراك الذاتي للأنا، يتضمن بعدا أعم، وغامضا وهو ليس شيئا آخر سوى الهو، الذي يسكننا ويحكمنا. 

    ـ غير متأكد من تخومه  بداخل ذاته، فإن الأنا، بالقدر نفسه غير متأكد منها في الخارج . لذلك فإن الوضع الغرامي يتخطى ـ في الحالة السوية ـ تلك التخوم منصهرة في الآخر، وبالنسبة لعلم الأمراض pathologie) (، فإنه يمنح عددا كبيرا من الأمثلة عن عدم اليقين، بين الأنا والعالم الخارجي، سواء أتعلق الأمر بأن تحيا   إنتاجاتها النفسية الخاصة بوصفها أجنبية ( الغرابة المقلقة ) أو بإسقاطها على الخارج، وعدم الاعتراف بانتسابها إليها (بصفة نهائية (الهلاوس، إلخ ). هذه إذن هي ” حقيقة ” الشعور الأقيانوسي التي تمت إعادتها إلى مفاصل النفسانيات النظرية métapsychologie) (، إلا أن فرويد سوف لن يتوقف عند هذا الحد، مقترحا تفسيرا وراثيا للقضية . 

    ـ لم يقم الرضيع بعد، بالتفريق  بين أناه والعالم الخارجي . تبعث له أعضاؤه بإحساسات، كما لو أنها كانت تأتي من الخارج، ومع ذلك فإن أفضلها يمكن أن يهجره، عندما ينظر إليه كشيء يخصه، كما يحدث مع الثذي الأمومي . بإمكان المرء الاعتقاد بأن فرويد قد ـ مع هذا الأخير ـ ميز الطبيعة الأمومية للأقيانوسي، وسيكون بوسعه الاكتفاء بفكرة الحنين إلى الانفصال مع هذا، لما لا، تبعا لصيغة رانكية rankien) (، إلى نقص ناتج عن فقدان الكون السائل للرحم . إلا أن عبقرية فرويد تكمن هنا في مواصلة ذلك، مثلما سنرى . 

  ـ لتحاشي كدر النقصان، يعيش الرضيع أناه ك” أنا لذة خالصة ” والتي يتعارض معها خارج أجنبي ومهدِّد ( قلق في الحضارة، مرجع سالف الذكر ص 252 ) . وهكذا اكتملت  الدائرة وابتُلع المحيط : في البداية، يتضمن الأنا كل شيء، أو على الأقل كل ما يقدم فائدة ليبيدية libidinal) ( . ( ” ليس  إحساسنا الراهن بالأنا سوى بقية محطمة لشعور ممتد على نطاق أوسع، ممتد على الكل حتى،الذي يماثل اتصالا حميميا للأنا مع العالم المحيط “، نفس المرجع ) . 

   لقد أقر فرويد إذن بالشعور الأقيانوسي إلى حد كبير، إلا … أنه جعل منه استمرارا للإحساس الأصلي بالأنا الابتدائية، متجاورا  مثل نسخة طبق الأصل لإحساس الأنا بالنضج . ومع ذلك، فلا يمتلك هذا التجاور قاعدة، ثم إن هذا الإحساس الأصلي سيختفي ( يُكبت ؟ ) لدى البعض، ولو أنه لا يطاله المحو ويحتمل استدعاؤه مجددا ” في ظروف مناسبة، كمثل نكوص يقطع شوطا طويلا بما فيه الكفاية ” ( نفس المرجع )

    مع هذه البرهنة، وسع فرويد ودقق في الآن معا، ما وراء علم النفس métapsychologie) ( وقد عمل على استبعاد الحجة الوجدانية على وجود الله التي كان يُفترض تقديمها . وسيكون بإمكانه الاكتفاء بما لديه وظن أنه وجد حلا، في الوقت نفسه، للغز الأقيانوسي ومصدر الشعور الديني مع القدرة الكلية النرجسية للمناظرات . إلا أن ذلك كان خاطئا تماما، وبعودته إلى الدين، سوف يعترضه أي شيء آخر ينسجم بشكل سيء للغاية مع ما سبق : ضائقة الطفل الصغير وحاجته في أن يكون محميا … بواسطة الأب . كان بإمكان المرء الاعتقاد بأن الخلية أم / رضيع تشكل الأنا النرجسية للبداية كانت كافية لتفسير ما سبق على أنه، بالنسبة لفرويد، كل شيء كان يحدث كما لو أن الحاجة إلى إرجاع الأب كانت تمنعه من استخلاص النتائج لبرهنته الخاصة . 

الحنين إلى الماضي، المعيوش العصابي للعتيق  

    إن تفسير فرويد للحاجة الدينية ما كان ليقتصر على ” الشعور الأقيانوسي ” طالما أن هذا الأخير يشكل حالة راهنة، ناتجة كما يفترض  عن دينامية غريزية سابقة . لا يدرك المرء إذن كيف أن حالة مماثلة يمكن أن تحدث فجأة ما لم يتم استدعاؤها داخل الفرد الذي يعيشها وقتئذ  كتعويض  لنقص، حتى وإن لم يكن واعيا بهذا الأخير . فأن نجعل من الشعور الأقيانوسي انطباعا يأتي من الخارج، من شأن ذلك أن يعطي ذريعة للمؤمن الذي يرى فيه شهادة على معانقة الخليقة المتناهية السمو الإلهي، أيا كان الاسم الذي يُراد منحه إياه . 

   كذلك بالإمكان فهم الشعور الأقيانوسي مثل أثر لمعيوش عتيق، إدراك العالم والذات عينها،الذي ليس هو نتيجة لنقص، بل تتمة للقدرة النرجسية الكلية للمراحل الأولى من الحياة . إن اعتبار هذا الإحساس الذي تميل إليه الذات المكبوتة بواسطة ضرورات الواقع، هو ضمه، في واقع الأمر، إلى  ديناميكية، تشتغل على صيغة العصاب . سوف نستحضر ذلك انطلاقا من مفهومين، يلجأ فرويد إلى استعمالهما، سواء مفهوم sehnsucht) ( ( ” الحنين إلى ماض مفقود ” ) ومفهوم Heimweh) ( ( المعاناة من غياب الموضوع ) . 

الحنين إلى ماض مفقود 

    لقد تم تأويل قلق هانز الصغير Le Petit Hans) ( في مواجهة الخيول بواسطة فرويد مثل ” زيادة في الحنان بالنسبة للأم التي تعيش قلقا ” ( مرجع مذكور،أعمال كاملة، 9، ص 21 )، إن تمطيط السؤال يمكن أن تكون له مصادر متنوعة، كما هو معروف . وهذا هو ما سوف يتحدث عنه فرويد باعتباره ” حنينا إلى ماض مفقود ” قائلا بأن ذلك القلق يماثل ” حنينا إلى ماض مفقود ” désirance) ( sehnucht) ( مكبوت . 

    هذا المنظور بسيط مظهريا فقط، وسوف يتم تعميقه بطريقة أشد تعقيدا في ملاحق الكف، العرض والقلق . تصور فرويد أن غياب الأم، لا يخلق، بالنسبة للرضيع، القلق فقط، بل الألم أيضا إذ إنه ” ابتداء من اللحظة التي يغفل عن رؤية أمه، يتصرف كما لو أنه لن يراها مرة أخرى أبدا ” ( مرجع مذكور، ص 28 ) . ووحدها تجربة لعبة الاختفاء coucou) ( وهي نسخة أخرى من لعبة Fort-Da) (، التي يستطيع معها، إذا جاز التعبير، الإحساس بالحنين إلى الماضي المفقود، الذي لا يكون مصحوبا باليأس ” ( نفس المرجع ) . إن التوظيف المكثف للأم، الذي تصنعه وضعيات الإشباع المكرورة، تحدث ” امتلاء من الحنين إلى الماضي المفقود “، أعني نوستالجيا  Sehnsuchtig) (، يقول فرويد، GW,14,p.285) ( 

    يمكن للمرء أن يلاحظ الإشارة الغريبة في الفقرة التي كتب فيها فرويد بأنه “عند الولادة، ليس ثمة موضوع حيث يكون بمقدور المرء اختبار غيابه ” ( نفس المرجع )، متغاضيا، ظاهريا عن المعيوش داخل الرحم intra-utérin (، أول ” منزل ” سوف يحتفظ الكائن البشري الاشتياق إليه Heimweh) (، لأن النرجسية المطلقة ( أو كما يتم اقتراحها على هذا النحو ) لهذه الفترة، لا تسمح بالحديث عن ” موضوع ما” . وفي الواقع، وعوضا عن الأم، فإن الوضع النرجسي الأصلي الحنيني هو موضوع الحنين إلى رغبة ماضية . 

    ينبغي اعتبار الVatersehnsucht) ( ( الحنين إلى الأب ) مثل بعد آخر، كما وظفه فرويد في كتاب الطوطم والمحرم . وجدير بالذكر أن سنة 1911، تعتبر بالنسبة لفرويد، مناسبة لمنعطف مهم في عمله، الذي ينفتح على البعد الجماعي، وبخاصة الحقيقة الدينية . فضمن حمى وغليان حواره مع يونغ Jung) (، انطلق نوع من التسابق لمعرفة أي منهما سيبتكر النظرية الأفضل حول الموضوع، وبالإشارة إلى عمل يونغ حول ” تحولات ورموز اللبيدو “، وأنه ” جزئيا تهيمن عليه وجهات نظرأبعد ما تكون عن وجهات نظري “، فقد استحضر إرادته في معالجة مسألة ” صلات الابن بالأب “،وهي موضوعة متكررة، كما سيتم ملاحظة ذلك، في علاقتهما 10

الأب المُبَجّل

    هل يمكن أن نرى في انعطافة ال” حنين إلى الماضي ” Sehnsucht) (، الذي أصبح، من حنين إلى الأم وحضنها، إلى حنين لحماية الأب، عودة إلى صراعه مع يونغ ؟ إن فرضية مماثلة لن تكون عديمة المعنى، كما أنها تساعد على فهم كيف أن فرويد يركز على الواقعة الدينية، والتي، علاوة على ذلك، سيقول أنها لا تهدد التحليل النفسي كنظرية وممارسة في شيء، حتى أنه كتب إلى ماكس آيتينغون Max Eitingon) ( :” يمكن للمرء أن يتساءل إذا ما كان على التحليل في ذاته أن يتسبب لا محالة في التخلي عن الدين 11  ” مسألة سيلاحظ أكثر من محلل، في وقت لاحق، بدءا بالقس أوسكار فيستر Oskar Pfister) ( في إيجاد حل سالب لها  …

    ولكن، لماذا الكثير من العدوانية، لماذا يتخذ فرويد  لنفسه مظاهر فولتيرية أو أسوأ من ذلك، للقس الصغير كومب Combes) ( من أجل تحقير الدين بوصفه عدوا ؟ أليس يونغ هو المستهدف إذن، هو الذي أحجم عن الصورة الأبوية، التي يلذ لفرويد تقديمها لنفسه لأنه يمتلك أبا مبجلا، إلهيا 12 ؟ العظيم المتعالي erhohter) ( بمعنى ” المكين “، ” المندفع إلى أعلى “، قد يميل المرء إلى القول أنه ” مُؤمثل “،لكن ليس مصعّدا، لأنه بالنسبة لفرويد، فإن الحنين إلى الأب وليس الأب ذاته، الذي يمكن أن يتم تصعيده. إن تعلق فرويد بيونغ، والذي كان يرغب في جعله ابنا له، لم يعثر، كما هو معتاد، على وضع طفلي معكوس، مستمتعا هو ذاته  بصورة الأب التي كان يمكنه تقديمها لتلميذه ؟ سيفهم المرء إذن لماذا هذا الأب البدائي، الأقل جاذبية، يقتل أو يخصي أبناءه، بإمكانه أن يصبح موضوعا لحنين إلى رغبة ماضوية بعد الاغتيال، بدلا من ألا يكون سوى ذكرى مزعجة ! تم اغتياله من قبل أبنائه، رُقّي الأب إلى مرتبة الذبيحة القربانية ثم إن التلاميذ قاموا باقتسامه إلى طعام طوطمي . سوف يرى المرء هنا الاستيهام الذي امتلكه فرويد عن مصير فكره وشخصه 13

    لا يتردد فرويد في إثبات  أنه : ” ضمن الوضع الذي تم إنشاؤه، عبر استبعاد الأب، يوجد عامل، كان يتوجب عليه أن يحدث نموا ، مع مرور الوقت، غير مألوف في الحنين إلى الأب ( التشديد من عندي ) . ” ( الطوطم والمحرم، ضمن الأعمال الكاملة، ص 367 ) . يصبح الأب مثالا بالنسبة للإخوة، أعني شيئا يتطلعون إليه، إلا أنهم لن يظفروا بشيء منه أبدا، طالما أنهم عدلوا عن الرغبة في أن يصبح كل واحد منهم مماثلا للأب . 

    لن يكون ثمة وريث، لقد أقلع فرويد عن ذلك بعد خيبة أمله فيما يتعلق بيونغ ( الذي كان سابقا على القطيعة، كما هو معلوم )، إلا أن جمعية التحليل النفسي هي التي ستضطلع بالأمر . لو تم القبول بقراءة تاريخ فرويد / يونغ بالموازاة مع ما قبل تاريخ البشرية، لكان في حوزة المرء تفسير التحويل المثير للانتباه، للحنين الذي لم يعد يستهدف بعد الأم بل الأب . أقر فرويد باحتمال مساحة للآلهة الأمومية، في فترة فاصلة بين الاغتيال وعودة نظام الأبوة patriarcat) ( المشيد على الشعور بالذنب والحنين إلى الأب، على أنه،كما قال، لم يكن قادرا على الإشارة إلى ذلك ” ( الطوطم والمحرم،مرجع سبق ذكره، ص 369 ) وسنضيف أنها،بصراحة،ليست مشكلته . 

   انطلاقا من هذه اللحظة، انضاف إلى التفسير القديم للحصر النفسي angoisse) ( باعتباره رغبة نوستالجية متميزة،  تستهدف الأب، أبا يمتلك القدرة على تسكين روع الطفل، يحميه ويحبه . هذا الأب المثالي، الذي لا يمت بأي صلة إلى ال” جد الأولUrvater) ( الذي تم اغتياله لحسن الحظ،وهو الذي ترسمه الحاجة الدينية . على أنه هل من الدقيق جدا أنه لا وجود لأي صلة مع هذه الصورة المرعبة ؟ ويبدو لي الأمر كذلك ـ خلافا لذلك ـ، لأن الأب كائن قاس ونرجسي سوف يتوسل إليه الأبناء . ففي الديانة الكاثوليكية، فإن الصلاة التي تقام على القديسين، أو على [مريم] العذراء تقوم بوظيفة ال” شفاعة “، أو تقديم المساعدة، لظنين، موجهة  إلى محام . لا يتعلق الأمر بتجاهل الجرم والعقاب المحتمل، بل الاعتراف بالذنب والتمتع بالترافع والعفو . لا يتعلق الكلام الموجه إلى الأب بذكرى أب محبٍّ وحام فقط، بل بمن يقترن به، الوجه الآخر، وجه الأب المُعاقب والقاسي الذي يرى فيه الطفل أبا شريرا، إن لم يكن خطيرا، على ضوء ما يحسده عليه كامتياز . 

  ففي مستقبل وهم، سوف يستدعي فرويد صورة ” التشبت بالأب ” ( مثلما تترجم عبارة Festhalten) ( التي تفيد ” تعلّق “، ” ارتباط “) ضمن تطور، نسوقه كما هو بناءعلى التناقض المثير للانتباه، الذي يقدمه مع النظريات اللاحقة بتشبت إ.هرمان I.Hermann) ( بإستر بيكEster Bick) ( : ” … لقد أيقظ الانطباع المخيف للكدر الطفلي الحاجة إلى أن يكون محميا ـ محميا باعتباره محبوبا ـ حاجة يشبعها الأب ؛ الاعتراف بكون أن هذا الكدر يطول مدى الحياة يجعل أن الإنسان يتعلق بأب، بأب غاية في القوة هذه المرة . إن قلق الإنسان أمام أخطار الحياة يُسكَّن عند التفكير في السلطان الخيِّر للعناية الإلهية، إقامة نظام أخلاقي للكون، يضمن إنجاز متطلبات العدالة، التي لطالما ظلت عصية على التحقق، في الحضارات البشرية، كما أن تمديد الوجود الأرضي، بواسطة حياة مستقبلية، يمنح إطارات للزمان والمكان، حيث ستتحقق تلك الرغبات . ثمة أجوبة على أسئلة يطرحها الفضول البشري على نفسه تطال  تلك الألغاز : تكوين الكون،العلاقة بين البدني والروحي، يتعززان تبعا لفرضيات النسق الديني ؛ ثم إنه لارتياح كبير بالنسبة للروح الفردية، بدلا من رؤية صراعات الطفولة تنبثق من العقدة الأبوية ـ صراعات لم نجد لها حلا تماما ـ، تتم إزالتها عنها، إن صح التعبير، والاستفادة من حل مقبول من الجميع . ” ( مرجع سبق ذكره ص 43 ) . 

   إن هذا الوصف الناعم والودي للدين، يعود إليه فرويد مرارا . فهو يرى فيه، في واقع الأمر، النواة، العنصر الصامد ضد إتلاف  الحقيقة الدينية . فقد كتب في مستقبل وهم مجيبا ” محاوره الداخلي “، فيستر،  : ” سوف لن تؤثر حججي أو حجج مماثلة في إيمان مؤمن أيا يكن . ثمة شخص ما يؤمن ببعض روابط الود مع مضامين الدين ” ( التشديد من عندي ) ( الأعمال الكاملة، 18، ص 187 ) . كما أنه استحضر في كتاب  قلق في الحضارة، القديس فرنسيس الأسيزي (Saint François d’Assise) مثل ذلك الذي ذهب إلى أبعد الحدود في سبيل التوظيف الكامل للحب لغايات الشعور بالسعادة الداخلية . وعندما استحضر القديس بولس، الذي يلذ له الاعتراف بالفعل ب” الخاصية اليهودية الأصيلة “، وهو ما أكسبه التعاطف 14  “، لقد أشار بأنه جعل من المحبة الشاملة للبشر أساس الطائفة المسيحية ( قلق في الحضارة، الأعمال الكاملة، 18 ص 301 . 

    علاوة على ذلك،فإنه من المثير للانتباه، أنه يقدم النزعة المعادية للسامية، كمحصلة لمذهب المحبة الكوني، على تهميش ـ فيما يتعلق بالتغير المفاجئ ـ ماكان ينبغي أن يثير اهتمامه، وهو حقيقة أن اليهودي شاول الطرسوسي Saul de Tarse) ( اشتهر بكونه مضطهدا للمسيحيين، من قبل أن يهتدي إلى الإيمان فيما بعد، إفساح المعمودية لفائدة الوثنيين Gentils) (،أعني لصالح غير اليهود الوثنيين، يونانيين، في الوضع الراهن، غير مختونين وجاهلين بالشريعة . 

   يمكن للمرء أن يعتبر، في واقع الأمر، أن العقيدة الكاثوليكية هي تلك التي يعتمدها فرويد كمرجع عندما يتكلم عن الرغبة في أن يكون محميا ومحبوبا بواسطة الأب، إذ إن إله الدين اليهودي تم وصفه من قبله كحامل لمحن ومعاناة أكثر بكثير من حمله لحماية محِبَّة . 

   كما أنه اتخذ أيضا الكنيسة الكاثوليكية، كنموذج للتنظيم الجماعي، حول المحبة في كتاب علم نفس الجماهير وتحليل الأنا : ”  والأمر مختلف في الكنيسة الكاثوليكية ؛ فكل مسيحي يحب المسيح كمثال يقتدى به، ويشعر أنه مرتبط بالمسيحيين الآخرين بالهوية . إلا أن الكنيسة تطلب منه المزيد . علاوة على ذلك، ينبغي عليه التماهي مع المسيح ومحبة المسيحيين الآخرين كما المسيح أحبَهم . تشترط الكنيسة إذن هاتين النقطتين لاستكمال الموقف اللبيدي، الذي يقدمه التكوين الجماهيري . ينبغي على التطابق أن ينضاف هناك حيث يتحقق اختيار الموضوع، ومحبة الموضوع حيث يوجد التطابق . وبالتأكيد فإن هذه الزيادة تتجاوز تأسيس الجمهور . بإمكان المرء أن يكون مسيحيا صالحا، ومع ذلك يكون بعيدا عن فكرة أن يحل محل المسيح، أن يضم مثله، كافة الناس، إلى صدره في المحبة . ليس المرء مضطرا ـ وكونه واهنا ـ إلى الاعتقاد، في كونه خليقا بسماحة الروح، وقوة محبة السيد المسيح . إلا أن هذا التطور اللاحق لتوزيع اللبيدو في الجمهور، يعتبر، على ما يبدو عاملا تشيد عليه المسيحية زعمها امتلاك أخلاقية أكثر سموا . ” ( مرجع سابق الذكر، ص 73 ) . 

فرويد والظاهرة الروحية

    لم يصُدّ موقف فرويد اللاغنوصي اهتمامه بظاهرة الاعتقاد الديني، بل على العكس من ذلك تماما. وحتى أنه بالإمكان القول بأنه مجبر على توظيفه، لأسباب متعددة . ويرتبط السبب الأول، بالتحليل النفسي ذاته، الذي يتطلب عقلا منفتحا على المجهول، والقوى الغامضة للهو،الجزء المغمور للجبل الجليدي . ولتحاشي التواطؤ مع بعد متعال، حيث يتلاشى التحليل النفسي، ويخاطر بأنه يتم استعادته ضمن سياق الاعتقاد،لابد لفرويد إذن من أن يتمسك بقوةضمن مواقفه ال”علمية “، مع إمكانية الاقتصار على نزعة وضعية محدودة إلى حد ما، أو يضع نفسه تحت رحمة الكتاب الهزليين الشكوكيين مثل هاينه Heine) ( . على أنه فلا التوكيد المكرر ل” كمثل العالم ” Weltanschauung) ( العلمي،ولا السخريةالدينية المضادة، غير كافيين، لضمان التماسك بين التحليل النفسي وبتلك المجالات، حيث يمكنه شرعا، أن يرتاع من رؤيته ملهما لأنه يوجد في جعبتها قرونا من التجربة والممارسة  : الفلسفة والدين ـ لذلك فإن الجواب الوحيد العميق، يكمن في جعل التحليل  النفسي أداة لتحليل الفلسفة والدين، عاملا في نفس الوقت على تحقيق رغبة مؤسسه الكبرى : أن يجعل من المنهج التحليل نفسي محللا للظواهر الجماعية والفردية، أبعد ما يكون عن هدف علاجي بسيط . 

   انطلق فرويد سنة 1911، يحفزه في ذلك حواره مع يونغ وتغذيه قراءته لكتاب ” مؤرخو الثقافة “، في هذه المغامرة، التي سوف لن تتوقف، إلا مع آخر نص له، موسى والتوحيد . إن اهتمام فرويد بالمسألة الدينية، يتجاوز بكثير الاهتمام القديم مع ذلك، الذي  أفضى به إلى الفلسفة، وإذا ما وجدت هذه الأخيرة نفسها  مُهاجمة بعنف مرارا، باسم أخطار المبالغة في التجريد، ولاسيما إغراءات الميل إلى النظام، فلا يعثر المرء في أي مكان في عمله في محاولة مدروسة لتقديم تفسير أصول المنزع إلى التفلسف، إن وجدت .  

  وبالتأكيد، فإن الظاهرة الدينية ذات امتداد كبير وتبعات سوسيو سياسية، تتجاوز، على نحو واسع، التأثيرات التي يمكن أن يتوقعها المرء من الفلسفة، في هذا المجال، غير أن تكرار انشغال فرويد فيما يتعلق به، له جذور أخرى لن أعود إليها، لأنها استوقفت ما يكفي من البرهنة، كما أنه يتم تلخيصها في هذا التناقض الديناميكي والتعريف  بنفسه ك” يهودي ملحد 15 ” فعن سؤال : ” ما الشعب اليهودي ؟ الذي يظهر مجددا من كتاب الطوطم والمحرم إلى كتاب موسى والتوحيد، يجيب بحكم الضرورة بسؤال آخر : ” ما الظاهرة الدينية ؟ ” لا يوجد فرويد هنا على أرضية مريحة، لأن جرأة السؤال ترتبط برحابته التي تقدم البرهان، على دراسات وقراءات،لم يكن المؤلف، بكل تأكيد، يملك القدرة على القيام بها . أضف إلى ذلك، أنه لو اعتبر المرء، أنه من خلال عصور ما قبل التاريخ، للشعور الديني في الطوطمية والسحر، شرع في تفكيره، فإننا نقيس الجرأة الفكرية لمنهجه الفكري . 

إلا أن فرويد هو أبعد ما يكون من أن يحيد عن الموضوع، من خلال ضخامته، وإذا قد كان أبدى بعض التردد، فإن ذلك ذلك يعود إلى نشر أبحاثه، طالما أنه في النامسا الكاثوليكية، في فترة أصبح الدين فيها، بشكل مفارق، ضامنا للتطور الثقافي، فإن مهاجمته لكونه يهوديا، كان ذلك يفترض، بشكل متزامن، توجيه العدوانية إلى الذات ومن ثم إضعاف حمايته النسبية 16

    لو تمت مقارنة الخاصية الشاملة للإحالات اليونغية، بالأديان والاعتقادات، بإشارات فرويد النادرة، في هذا الميدان، الذي وضع تاريخ موسى، وبعض الإحالات على القديس بولس جانبا ـ بقي ضمن اعتبارات على الأصح عامة حول ال” تعبد “، لقد تم الشروع في التساؤل، لماذا هذه العودة من البداية من 1911 إلى 1939 حول نفس التساؤل . لابد،من أجل فهم ذلك، من استعادة الشروط السوسيوتاريخية للفترات، حيث كان تأثير الدين على العقول، ولاسيما فيما يتعلق بالأخلاق الجنسية كان كبيرا جدا، ليس بالقوة ذاتها في الوقت الراهن، حتى ولو تم أخذ مختلف التجديدات بعين الاعتبار في هذا الصدد . 

   يبدو الدين، بالنسبة لفرويد، مثل ” عصاب للبشرية “( موسى والتوحيد، ص 132 ) وفي هذا الصدد، فقد وطن العزم على مباشرة دراسته، ليس ضمن هدف مقارن، بذلك الهدف الذي كان يمكنه تحقيقه لصالح الإبداعات البشرية، مثل الإبداعات الفنية، الأدبية أو الفلسفية حتى، لكن ضمن هدف علاجي، بالمعنى الدقيق للكلمة، وواق من الأمراض على المدى الطويل . 

    إن اهتمام فرويد بالدين ينضم و، في النهاية، يتدخل مع معركته النضالية، من أجل قول ال” حقيقة ” للأطفال، حول موضوعات الجنس والولادة .ففي هذه الحالة أو تلك، فإن الخرافات، التي يتم اقتراح سماعها، تعتبر، بالنسبة إليه، مزعجة، فليست الفضيلة المنومة ل” مخدر الشعب ” هي ما يهاب، بل تأثيرات إدمان المخدرات السامة، التي تحرم الفرد من قدرته على التفكير، وربما من حريته . 

ما الذي قمنا به قرابة قرن بهذا البعد المضاد للدين بمعنى الكلمة، بالتحليل النفسي؟

    إذا كان تيار بكامله، لاسيما بفرنسا، حيث بذلت فرانسواز دولتو Françoise Dolto) ( قصاراها من بين آخرين كُثُر، مثلما فعل أوسكار فيستر، في زمانه، ليس من أجل التوفيق بين التحليل النفسي والاعتقاد الديني فقط، بل لإيجاد حجج لدعمهما بشكل متبادل، ومن وجهة أخرى، فإن جانب البحث الفرويدي لم يتم التعامل معه بذات الحدة، خلافا لذلك . 

    خلافا لذلك تماما، وضد شكل آخر من النزعة الوضعية، مُنكرا على التحليل النفسي علمويته، رادا إياه إلى عدد تلك الاعتقادات اللامبرهن عليها،وربما أتلك الأوهام التي لطالما قاومها فرويد، والذي ينبغي الدفاع عنها، وتوضيحها، في الوقت الراهن، بشكل متزامن، وبشكل مختلف، فإن الحقيقة الدينية تسترد قوتها، التي كانت تميل في العقود الأخيرة، إلى الوهن . فأن تحل محل الإيديولوجيات الماضية، أو أن تعود إلى منابعها في مختلف الأصوليات، فإن الأديان يصعب تجاهلها . 

يعود هذا النص في أصله إلى صوفي دوميجولا ميلور (Sophie de Mijolla-Mellor)، الحاجة إلى الاعتقاد (ماوراء علم النفس الحقيقة الدينية )، باريس، 2004 Dunod,collection « Psychisme » 

مصدر النص : سيغموند فرويد، منشورات دفاتر ليرنا Les Cahiers de L’Herne باريس  2015  تحت إشراف لورانس تاكو Laurence Tàcu


حاشية 

  • 1 ـ صوفي دو ميجولا ميلور، الحاجة إلى الاعتقاد، باريس 2004 Dunod
  • 2 ـ ” أنتم على حق : يجازف المرء بالإفراط في تقدير تواتر غياب الشعور الديني، لدى المثقفين . لقد اقتنعت، في هذه اللحظة بالذات، من خلال ردود الأفعال، على كتابي مستقبل وهم . إن ذلك ناتج عن كل المشروبات، التي يتم منحهاإيانا تحت اسم ” دين “، ـ والتي تحتوي على نسبة مئوية طفيفة من الكحول ـ إذا لم يكن ذلك من الكحول في شيء ؛  لكن الناس يسكرون به . ” رسالة فرويد في 19 مارس 1928، إلى ماري بونبارت (Marie Bonaparte ) إرنست جونز 3، 447 ضمن حياة وأعمال سيغموند فرويد، ترجمتها إلى الإنجليزية ليليان فلورنوا Liliane Flournoy) (، باريس Puf,t.3,p.504 .
  • 3 ـ بصفة رئيسة القس فيستر  ورومان رولان Romain Roland) ( لكن أيضا، وبصفة خاصة، لو أندريا سالومي .
  • 4 ـ ” بإمكان المرء، ولسبب وجيه، محاولة اختبار من وجهة نظر تحليل نفسية، أعني وراثية ( التشديد من عندي ) من أين يشتق إحساس مماثل “، قلق في الحضارة .  
  • 5 ـ ” أقر مرة أخرى، الشعور بعدم الارتياح، لتناول أشياء مماثلة يصعب توقعها ” (نفس المرجع ص 16 ) .
  • 6 ـ هنري برغسون، المدة والتزامن، باريس، بوف، 1968، ص 41 . 7 ـ سيغموند فرويد نتائج، أفكار،قضايا، 2، المقالة التي تحمل هذا العنوان،باريس، بوف Puf، 1985، ص 288 . 
  • 8 ـ سيغموند فرويد، الهو والأنا، باريس، غاليمار، 1977،ص 117 . 
  • 9 ـ ” في هذا المقام، أعتقد أنه سيكون لدينا اهتمام كبير، باتباع إشارات مؤلف، يؤكد بلا جدوى، ولأسباب شخصية، بأنه لا علاقة له بنخب العلوم الدقيقة . أرغب في الحديث عن ج. غروديك، الذي لم يكفَّ عن الإلحاح بشأن ما نسميه أنانا notre moi) ( كونها تتصرف في الحياة بطريقة سلبية أساسا ؛ ثم، وبحسب تعبيره، فإننا” مسكونون ” من قبل قوى مجهولة، يستحيل التحكم فيها . لقد اختبرنا جميعا مثل هذه المشاعر، حتى ولو أننا لم نسيطر عليها، إلى درجة استبعاد المشاعر الأخرى، ونحن لا نتردد في إعادة وجهات نظر غروديك إلى مكانها في جسد العلم . سيغموند فرويد، الأنا والهو، ضمن بحوث في التحليل النفسي، باريس payot,1981,p.23. 
  • 10 ـ حول هذه العلاقة النزاعية والخصبة، انظر الفصل 6 من هذا الكتاب ( زندقة أو أراء متعارضة ” ) . 
  • 11 ـ رسالة في 20 يونيو 1927، ساقها بيتر غاي Peter Gay) ( في كتاب يهودي بلا إله، باريس puf,1989,p ;20,note 11 . 
  • 12 ـ ” أشار فرويد بأن الله لا يعني شيئا آخر (كذا) سوى أب نشوان “، الطوطم والمحرم، أعمال كاملة، 11، ص 366 . 
  • 13 ـ منظور، هو علاوة على ذلك، منظور نونبرغ Nunberg) (، لمّا قام باستحضار جلسات الأربعاء، مثلما سنرى ذلك في الفصل 7 ( 7 . 3 . ” خصوصية النظرية والبحث في التحليل النفسي ” ) . 
  • 14 ـ “فبعد أن جعل الرسول بولس، من المحبة الشاملة للناس، أساس طائفته المسيحية، فإن التعصب الشديد للمسيحية، تجاه أولئك الذين بقوا في الخارج شكّل تبعة لا مفر منها ؛ للرومان، الذين لم يشيدوا الحياة العامة، في قلب دولتهم على المحبة، بقي التعصب الديني غريبا، بالرغم من أن الدين، شكل عندهم قضية دولة، ثم إن الدولة كانت مغمورة بالدين . ” قلق في الحضارة، الأعمال الكاملة، 18، ص 301 . ومع ذلك فإننا نذكر بأن التسامح الديني للرومان، مع نيرون، متبوعا بالعديد من الأباطرة الرومان مشترطين الارتداد، لن يمتد إلى المسيحيين، الذين اعتبروا سياسيين محرضين، وهو الشيء الذي ما كان على فرويد تجاهله !  
  • 15 ـ أفكر خاصة في أعمال بيتر غاي، يهودي بلا إله، باريس، بوف، 1989 . 
  •  16ـ”… يطرح الوضع نفسه بطريقة مماثلة، حيث أصبحت الديموقراطيات المحافظة، في الوقت الراهن، حارسة للتقدم الثقافي، ومن المفارقات أن المؤسسة التي هي الكنيسة الكاثوليكية التي تقاوم بشدة، تمدد هذا الخطر الثقافي، هي التي شكلت، إلى حد الآن، عدوا عنيدا، ضد الحرية والتقدم، لفائدة معرفة الحقيقة ! 
  • نحن نعيش هنا في بلد كاثوليكي تحت حماية هذه الكنيسة، دون معرفة كم من الوقت سيتم ضمان تلك الحماية . على أنه مادامت ستوجد فإننا نخشى بالطبع العمل على ما بإمكانه إيقاظ معاداة الكنيسة . لا يتعلق الأمر بالجبن بل بالحيطة ؛  العدو الجديد، الذي نرغب توخي الحذر منه، هو أخطر من القديم الذي تعلمنا التعايش معه . ” ( موسى والتوحيد، ص 132 ) . 

رابط المصدر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى