وفي لبنان ميلادي

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

عندما تتعانق الأوطان وتسري في شرايين الشعوب العربية براكين المحبة والتسامح وقبول الآخر والحنين إلى الحريات والرأي والرأي الآخر، فلا نملك إلا أن نقول (في لبنان ميلادي)؛ لأن هذا البلد القابع في حضن البحر المتوسط وبين أجمل الجبال والتلال والخضرة الربانية والغابات التي لا مثيل لها، ويمثل بحق تجربة ميدانية لما يجب أن تكون عليه الطبيعة، بعيدا عن أزمة التغيرات المناخية، فالأشجار والغابات تبعث الأكسجين وتمتص الانبعاثات الحرارية والكربون، وهذا ما تعاني البشرية من وجود خلل فيه وسيكون سببًا في الصراع العالمي القادم.

فالإنسان اللبناني هو الوجه الآخر للإنسان المصري، كلاهما محب للحياة والحرية، والقواسم المشتركة بينهما في الفن والموسيقى والكتب والمعرفة والثقافة والحضارة لا تُعد ولا تُحصى، وهذا لم يأت من فراغ، بل هو نتاج تعاون من قديم الزمان، فالحضارة الفينيقية القديمة تتراقص في أحضان الحضارة المصرية القديمة، وقليل من الدول من يمتلك هذه الحضارات التى تعطي مؤشرًا بأن الإنسان منذ قديم الزمان كان محبًا للحياة وفنونها وطقوسها، وهذا ما سجلوه على جدران المعابد، حتى فيروز ووديع الصافي من لبنان وأم كلثوم من مصر، ليعطي ذلك زخمًا فنيًا ما زالت أصداؤه كاللؤلؤ في بيروت والقاهرة من خلال صوت فيروز الذي يعتبر صوت الوطن، وأم كلثوم التي تتربع على قلوب المصريين والإخوة العرب.

ورغم الفراغ الذي تعيش فيه والانسداد السياسي الذى تمر به بيروت الحبيبة ما زال الأمل مستمرًا في أن تعبر الفجوة أو المحنة، وهذا لن يتأتى بالكلام وحده (فالكلام لا يكفى ولا بد من نطق الحق).

فأزمة لبنان ليست في شعبه ولكنها في طوائفه وقواه ومذاهبه السياسية، وجاء اتفاق الطائف ليوزع الحصص والمناصب؛ فرئيس الجمهورية ماروني، ورئيس الوزراء سني، ورئيس مجلس النواب شيعي، وهذا هو سر الخلطة اللبنانية التي لم تجد حلًا، حتى أصبح أخطر ما يهدد الدولة اللبنانية ليس فتنة القصور ولكنها فتنة النفوس، فهذا الاتفاق هو كمين سياسي لا بد من فك شفراته وألغازه ومحتواه ومضمونه بإعادة صياغته وتركيبه أو خلق مناخ سياسى جديد لا يعتمد على الحصص والتقسيمات الفريدة من نوعها فى عالمنا العربي.

ولن يخرج الشعب اللبناني العظيم الرائع المحب للحياة من هذه الأزمة أو المحنة إلا بالقفز على هذه المعادلة السياسية الصعبة وحلها، فما زال هناك حكماء يعيشون خارج لبنان، يمكنهم المساهمة فى ذلك، فالمهاجرون اللبنانيون فى كل البلدان العربية والإفريقية والأوروبية والبرازيل عددهم بالملايين، والبرازيل وحدها بها ملايين المهاجرين اللبنانيين، ومعظمهم وصلوا إلى وضعهم الحالى بجهدهم وعملهم حتى استطاعوا تكوين أكبر الشركات العابرة للحدود والوصول إلى أرقى المناصب، وما زال حلمهم العودة إلى لبنان الحبيب.. ولولا ضخ المهاجرين اللبنانيين الدولارات إلى أهاليهم في شتى بقاع لبنان لطحنت هذه الأزمة الاقتصادية حياتهم ومعيشتهم.

وحاول نبيه بري، رئيس مجلس النواب، أن يدعو إلى تشكيل لجنة للتوافق بين كل الطوائف والقوى السياسية في البرلمان، ولكنه فوجئ بمعوقات وتعنت، ورُفض مجرد الاتفاق على ملء الفراغ فى منصب رئيس الجمهورية.. والتساؤل هنا: لمصلحة من يتم ذلك؟ هل لحسابات خارجية ولمصلحة دول بعينها تريد أن تشعل الملف والأزمة اللبنانية؟ وما دور بعض السفارات فى إشعال الأزمات تلو الأزمات وليس البحث عن حل لهذا الفراغ الذى يعيشه الشعب اللبناني الرائع؟!.

لقد اعتاد الشعب اللبناني هذه الانقسامات، وأصبح محصنًا ضد هذا الوباء السياسي، ولكنه يعانى ويجب أن يكون هناك حل للخروج من هذه المعاناة، ولقد جاءت أزمة كورونا وأخواتها لتكشف الغطاء عما يدور في الداخل اللبناني وتحكم الخارج في قراراته، وأنه بلد يعتمد على الاقتراض والمعونات الخارجية، حتى أصبح الموقف يدعو للحسرة والألم والمواطن اللبنانى لا يستطيع الحصول على مدخراته من البنوك اللبنانية فى سابقة تُعد الأولى من نوعها رغم أن لبنان بلد يتمتع بجمال الطبيعة وشواطئ ومناظر لا مثيل لها، وكانت السياحة فيه مرادفًا قويًا لإدخال العملة الصعبة إلى الشعب اللبناني، ولكن أخطر ما يهدد لبنان والذي يكون عادة سببًا فى إسقاط بعض الدول (أن صغاره يتولون مقاليد أموره)، فبلد احتضن المقاومة الفلسطينية والمخيمات والساحات فى الجنوب والشمال اللبنانى، وشعب ما زال (الإمام المغيب موسى الصدر) يتربع على قلبه وعقله؛ لأنه كان وسطيًا ومستنيرًا حقيقيًا فى تطبيق تعاليم الإسلام، خاصة أنه كانت له صلات بالأزهر الشريف، قبلة المسلمين فى كل بقاع الدنيا، فهذا الشعب لا يمكن ألا يكون قادرًا على حل أزمة سياسية، فهو شعب مقاوم وقادر على صنع المستحيل، فمدينة صور كانت رمزًا للمقاومة الشعبية الحقيقية وجعلت الإسرائيليين لأول مرة بعد نصر أكتوبر يتركون أراضي احتلوها نتيجة مقاومة أبناء الجنوب للكيان الصهيونى في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات.

حتى سوريا التى تُعتبر إحدى الحاضنات السياسية للبنان ومشتركة معه في الحدود بحرًا وبرًا بل في التركيبة السياسية، استطاعت القماشة اللبنانية أن تستوعب كل هذه التناقضات، وكان لبنان هو الملاذ الحاضن والآمن لكل السوريين إبان الحرب على الإرهابيين حتى استطاع الجيش السوري الوطني أن يحرر جزءًا كبيرا من الأراضي السورية.

وأتمنى كمصري وعروبي وقومي أن تعود مرتفعات الجولان قريبًا للسيادة السورية، وهذا حلم كل عربي، ولكن قد يحدث المستحيل ويتحقق الحلم وتعود الأرض لسوريا.

ولا يمكن أن أنسى أن المناضل الحقيقي ياسر عرفات الذي يمثل رمزًا للمقاومة الفلسطينية والعربية، كان لبنان إحدى محطات نضاله، وما لا يعرفه الكثيرون أنه كان سببًا في تغيير حركة (المحرومين) وتحويلها إلى حركة أمل التنويرية التى لعبت دورًا حقيقيًا في النضال والكفاح فى الجنوب اللبناني.. لقد شاهدت ورأيت بنفسي كيف أن الرئيس نبيه برى عندما يتواجد فى صور يلتف حوله الآلاف من أبناء الشعب اللبنانى وحركة أمل فى الشوارع وفي حالة استنفار شديد.

ورغم ما شاهدته فى مدينة صور والجنوب اللبناني، إلا أن المناطق الحدودية التي عبرت إليها بتصريح من المخابرات، فى مزارع شبعا، رأيت فيها أجمل منظر شاهدته فى حياتي، ورأيت آثار الصراع بين الجانب الإسرائيلي للأسف الشديد والجانب اللبناني على الغاز والبترول اللبناني، ولكن هذه هى فاتورة كفاح الشعوب والأوطان فى ظل الاحتلال الصهيوني الذي تدعمه وتغذيه أمريكا، رغم محاولات الوصول لحلول وسط والاتفاق حول تقسيم الغاز، ورغم موافقة حزب الله والحكومة اللبنانية على الاتفاق، فعلى عكس التقارير التي نسمعها يوميًا من أن هناك ميليشيات لحزب الله فى الشوارع والميادين فى الجنوب اللبناني، إلا أن ما رأيته يؤكد أن هذا غير حقيقي على الإطلاق، وأشهد الله أننى لم أر خلال أسبوع هذا الكلام، فالحزب بالنسبة للشعب اللبناني يمثل صمام الأمان للجنوب، خاصة أن الجنوب سيكون هو الحكم والمستفيد الأول من اتفاق الغاز والبترول بسبب فرص العمل التى ستتوفر لأبنائه، وسيعم الخير على الشعب اللبناني كله.

ولا أنسى أو أتناسى الدور المصري الحقيقي في هذا الملف، فمصر هى البلد الوحيد الذى ليس له مصلحة إلا مصلحة الشعب اللبناني، فليس لها أطماع أو دعم لقوة سياسية على حساب أخرى، وليس هناك من يلعب لحسابها، لأن مصر بسياستها الخارجية هى الداعم للشعب اللبناني، وهذا أحد ثوابت الدولة المصرية منذ عهد الزعيم جمال عبد الناصر الذى يعشقه الشعب اللبناني إلى حد الجنون، وينتظرون مجىء مثله ليخلصهم من أزماتهم، وهذا هو الشيء العجيب والفريد.

ولأن لبنان أم العجائب ومصر هى أم الدنيا فقريبًا سنزف البشرى التي طالت كثيرًا للشعب اللبنانى بضخ الغاز المصرى للأراضى اللبنانية بعد موافقة البنك الدولي.

كل هذه الأحداث كانت في ذاكرتي وفي نفسي وفي مخيلتي وأنا لا أمتلك إلا الكلمات، ورحلة الكلمات أصعب من رحلة الرصاص والقتل والدمار، وما زال عندي أمل أن يكون (في لبنان ميلادي).

وعجبي.


رابط المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى