يقين وأرق.. استساغات الحياة الوارفة

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

كما كانت الحياة وبدأت، تظل تتغير الأشياء جميعها متخذة تشكلات وتحولات، ومعها تتغير بعض طباع البشر، وهم يمضون هنا وهناك، يحملون نوازع الأمل والشغف وبعض شراهة أيضا لم تهذبها الحضارة والتطور؛ إذ تظل نوازع كامنة تنتظر موضع اختبار فتكون الدهشة والمفاجأة وأيضا ما هو من قبيل الاستدلال بأنه يبقى جوهر قانون حركة الكون والخلائق ساريا ملازما ليوميات الحياة وخطو البشر، يحدد مداراتها ومقاصدها، وأنه هكذا كان منذ البدء تخفيه قشرة التمدن حينا، وبينما يصنع الإنسان متطلبات عصره مجتهدا متحليا بالأسباب والنظر والتدبر، ومعمرا للكون، مضيفا ومحققا وفرحا أيضا، تظل الحكمة ضالته في أن يظل متحليا بالتواضع وأنه مهما امتلك من أسباب التطور والقدرة على إخضاع ظواهر الطبيعة وهو يستأنس شرّها فإنه يمكن فجأة لأضعف الكائنات أن تشكل خروجا مستفزا لدوائر ما يظنه فى راحة اليد.
وتمنح آثارًا دالة في هذا السياق بعض ما تواجهه البشرية والمجتمعات والأفراد من الإشكاليات والأزمات بل والنوازل العاصفة التي لا تقف عند حدود مكان ولا تحول بينها الموانع الطبقية والجغرافية، وقد شكلت الأوبئة والظواهر الطبيعية المدمرة وغيرها تمردا على ما ظن الإنسان أنه يعرفه وانتهى من تدجينه فهما وتحرزا، فأظهر ما تصنعه من أثر مضر ومخيف أن هذا الكائن البشري المفكر والمخترع الذي يمضى في الحياة لا زال على فطرته هلوعا يبحث عن التعاضد والمساندة مهما عظمت مكانته أو حيازته أو نأت جغرافيته، وبينما يمنحه التقدم ملامح مهمة في تيسيرات العيش والانتقال تظل دواخله تحمل طباعه الفطرية التي بدأ وينتهي منها من خوف وقلق وتوقع ورهبة وأمل وتطلع كصفات لا تزول، وتعبيرات عن الضعف الكامن فى جيناته، ومسارات الترقب والانتظار في تكوينه، وتلك هى حكمة الله في خلقه.
كما تكشف أيضا نزلات الأزمات والأوبئة أثرا جانبيا مهما لتقدم وسائل الاتصال، وحيث التكنولوجيا المتطورة التي تيسر التواصل على الناس وتقرب بينهم على تباعدهم، لها أيضا تأثيراتها الجانبية في الأزمات والجوائح حيث هي ناقلة للفزع ومكبرة للمخاوف ومجسدة لتفاصيلها رعبا عبر الأفراد وأيضا عبر المحيطات والقارات، كما تكشف عن “معدن” كثير من الناس في التركيز على انتقاء السلبي ونشره تعميما والتشبع به يأسا ومن منطلق أن الشجن البشري ومشاركته ربما هو ما بقى داخله من تدبره فى تقلبات الحياة والفناء، هكذا مثلت منصات الميديا والسوشيال ميديا في مجال نشر أخبار كل مشكلة أو أزمة أو جائحة، حيث يتبين تدفق كبير يعلي من نشر ونقل خبرات وتجارب سلبية تصنع الفزع مسترخيا منتشرا واثقا.
ربما يرى البعض أو يطرح السؤال أنه ربما يكون “الجهل” أو تجنب المعرفة في هذا الشأن حلا ووقاية حينا؟ لكن لايمكن أبدا التأكيد على صحة ذلك وتقبله على عواهنه وبقوس مفتوح مهما ظل ذلك الخيار لدى البعض مريحا، لكن يمكن أيضا أن نتذكر حقا أنه كم عاشت البشرية قرونا وأزمنة تسترخي ابتعادا وغربة وهي تنأى عن النقل المتسارع للأزمات والكوارث وصورها، وحيث التوكل واليقين يبرزان هنا عمودين راسخين لمعايش الإنسان في الأزمات، يتأكدان تضرعا وخيفة وقربا من الله الخالق مسبب الأشياء، وحيث ينفلت حينها البشر مضطرين ولو إلى حين من عوالق الأشياء السطحية التي تؤرق حياتهم فإذا بهم يستيقظون عليها وقد ضعفت تأثيرات جذبها وجماليات استحواذها وصارت هباء ضعيفا منثورا، وإذا الجميع يشتركون رغم فوارق الطبقات والوظائف والأدوار فى مشاعرهم، وخوفهم وقربهم وتلاحمهم وأملهم ويقينهم في رحمة الله.
ستشرق الشمس وتدور الأرض حول نفسها وكما فعلت منذ بلايين السنوات ولا تزال، وقد مرت البشرية بدورات حياة هنيئة وأزمات ومحن عاصفة رصدها مؤرخو أيامها سجلا توقف عنده القراء تعجبا واعتبروه تاريخ ما مضى في زمن البدائية وخفوت ضوء العلم، وفي زمن الإنترنت تسجل الوسائط الاتصالية مرحلة أخرى من أزمات حياة البشرية والمجتمعات في تشكلات وصور متنوعة وفق بقاع الجغرافيا ودورات الزمان، وسيظل الناس يستأنسون ما يؤرقهم فتمر تلك المواقيت ببطء أو متسارعة، تحمل معها تداعياتها وأحداثها، وسيزرع الناس ويحصدون ويأكلون، ويسافرون بحرا وجوا وخيالا، ويتسامرون بالحكايات، وسيعاود البشر وكما عاشوا أبدا سيرة فطرتهم يختلفون ويتشاجرون ويتقاتلون، يجتهدون ويأملون ويزهون ويفرحون، وستبقى هناك في نفوسهم كامنة طبائع خوفهم وضعفهم، وسيظل كل ذلك بعضا من سيرة حياة البشر فى كل زمان وكما سيذكرها مؤرخو الأزمان، وحيث هم وأيامهم مجرد سطور في صفحة واحدة من كتاب حياتها الوارفة.


رابط المصدر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى